ISET

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث : مجال اهتمامات المركز ومشاغله البحثية يتجاوز الأشخاص والجهات، مركزا على شتى ألوان الثقافة العربية الإنسانية التي أنتجتها هذه البلاد وما جاورها؛ دون أن نغفل الثقافة الإنسانية العربية والعالمية منها عموما
 اتصل بنا من نحن بحوث مرويات النشاطات الرئيسة

بقلم يحي بن البراء:

مدرس باحث؛ كلية الآداب، جامعة نواكشوط

شعر ابن الطلبه: نظرة في المعجم والتركيب
من أجل مقاربة لظاهرة "الشعرية"

 1.     المقدمة

سنحاول في هذا المقال ذي الطبيعة التأويلية، ككل كلام على كلام، أن نثير بعض القضايا التي تندرج في باب الوصف المعجمي التركبي لما تترصد من مسائل نسقية لا تمثل في ذاتها مشغلا دلاليا صرفا وإن بدت إحدى ركائزه التي عليها يتأسس وبها يقوم وسنجتزئ قطعا أو أبياتا معدودة من ديوان محمد بن الطلبه اعتباطا لنعاين من خلالها كل عطائه الشعري لما نرى في ذلك المسلك من – باعتباره نوعا من الاستقراء النقص – من قدرة على القيام بالتعميمات وبناء الفرضيات الدالة، ومن وفاء بالشرط العلمي اللازم في كل عمل وصفي يسعى إلى مستور ما من الكفاية.

ونظرا إلى طبيعة الموضوع المطروق، فإن معالجته ستضطرنا إلى اعتماد الأداة النظرية والاصطلاحية اللسانية لأن من شأنها أن تخول المشتغل على الأبنية اللغوية – في الحقبة الراهنة إمكانية ذات فسحة لفحص النصوص اللغوية بشكل أبلغ في التأسيس النظري وأوفي من ناحية الكفاية، سواء على مستوى الملاحظة أو الوصف أو التفسير. وبما أن الجهاز الاصطلاحي المستخدم في هذا المكان قد لا يكون من مألوف الكثيرين فقد حاولنا تبيان ما جاء منه في العمل ولو بشيء من الطي والإيجاز.

ومن المفارقة أن نحاول دراسة الخطاب الشعري وهو ذلك المستوى الساحر والمثير من مستويات اللغو متوسلين بالعلم اللساني الذي يكاد ينحد فيما يمكن تكميمه وصورنته.

خاصة أن هذا العلم يحرص أكثر ما يحرص على التوجه نحو ما يمكن التنبؤ به من المتواليات الصوتية الدالة انطلاقا من قوانين أو قواعد مضبوطة مما جعل الخطاب العادي الذي يعرف اصطلاحا بـ"الدرجة الصفر من الكتابة" مجال انطباقه الأمثل. أما النص" الجمالي" فيظهر عصيا على الضبط، نادا عن الحصر، وإن ظل النقاش حول صحة هذه الدعوى طويل الذيل، موصولا على حقب التاريخ اللغوي والنقدي

وقد يكون لالتباس قراءة النص الشعري دور في هذا الخلط كبير.فهناك عملية الاستهلاك وهي تذوق جمالي قبل كل شيء وهناك عملية التأمل وهي مسعى علمي موصول الجهد. إن اعتبار الشعر واقعة كغيرها من الوقائع قابلة للملاحظة علميا والتحديد كميا قد لا يكون وصل لحد البداهات وحتى عند أهل الذكر المختصين. ولا غرابة في ذلك فقد بقيت الأرض ساكنة في أعيننا حتى حين علمنا أنها تدور. غير أنه أصبح اليوم بمقدور دارسيه أن يصلوا إلى تعميمات وأن يلحظوا بعض اطرادات تجعله في عداد الظواهر القابلة للتقعيد. فالمعالجات الدلالية الحديثة في حقل اللسانيات قد فتحت  آفاقا واعدة لمعالجة الخطاب اللغوي "المنزاح". ولذا يمكن أن نقول إن ما عرف في القرن الماضي بالأسلوبية أو الشعرية قد أصبح اليوم مكونا أساسيا من مكونات علم اللغة وتم إدماجه بشكل غير منغول في تمثيل أنساقه الداخلية.

وشعر ابن الطلبه الذي نعاينه في هذا المكان انطلاقا من زاوية لغوية يمكن تعريفه مرحليا ـ كما أشار إلى ذلك مقدم الديوان المحقق ـ بأنه مشاكل على مستوى الدوال والمدلولات للشعر العربي عند نشأته الأولى عصر الجاهلية وأول عهد الإسلام. ففضلا عن التشابه في البيئة وشتى مكونات المشهد الطبيعي بين جزيرة العرب وأرض الشاعر، فإن ثمة تماثلا في نمط العيش واشتراكا معلوما في المخيال والمرجعية الثقافية ـ وإن كان الإسلام بوقعه القوي في مجتمع ابن الطلبه قد وارى بعض عناصر ذلك الإرث الثقافي وأعاد من صياغة وتشكيل بعض منها آخرـ أفضيا إلى وحدة الإطار المرجعي وتكرار ذات الاستجابة نظرا لتشابه المثير[1]

وقد يقتاد الشاعر خيار واع لاعتماد الشعر الجاهلي وما لصق به من شعر الإسلام بعينه إذ هو الأس الركين الذي قام عليه الشعر العربي في مجمله والنموذج الأمثل الذي يهتدي بهديه الشعراء ويتحاكم إليه علماء الشرععند بأويل الرآن والسنة أو عند ممارسة أبواب الاجتهاد المتعلقة بمباحث الألفاظ.

2.     الإبداع الشعري من قنوات الصياغة إلى مفاوز التأويل

 

يبدو من الفرضيات المؤسسة في حقل العلم المهتم بنشأة المعارف من حيث بناءاتها وصياغاتها ومجالات انطباقها (الإيبستمولوجيا) أن اللغة تبقى السبيل الأول لنقل الفكر والتجربة عند الإنسان بل للتعامل مع المعطر الخارجي، إن بأخذ صورة عنه وفهمه أو بإعطائه تنظيما ومعقولية[2] ومن المعلوم في هذا الإطار أن هذه المؤهلات التي لا تسمح للإنسان أن يفكر ويعقل الأشياء إلا انطلاق من اللغة، ترجع في أساسها إلى تكوين عقولنا[3]. ذلك أن ثمة برمجة نحوية مورثة تبدو من أهم الخصائص التي تقيم تمييزا نوعيا بين الكائن البشري والكائنات الأخرى[4].

 

إن البنية الدلالية أي تلك المعلومات المحلة عن طريق اللغة تبدو مصوغة بالطريقة التي ينظم الذهن بها التجربة[5]. لذا فإن التنظيم الذي يقيمه الإنسان للعالم الخارجي أو يسقطه عليه والذي يتخلص في تقطيع الخرج المحيطي وجمع الأجزاء المتمزقة والمبعثرة في الخانات وتصنيفات متسقة ربما يكون جزءا أساسيا من الترميز الذهني الذي ينظم بنية دماغ الإنسان. إن هذا العالم المتسق الذي نراه بشكل بالغ التنظيم هو في الواقع عالم مسقط يمكن إلى حد كبير أن نقول إنه من محض صنع خيالنا. إنه ينحصر في تلك المعلومات التي تنقلها اللغة: الوجه الآخر كوجه الفكر للورقة الواحدة. لذا فلا إمكان للفكر بدون لغة وليست هذه الأخيرة لباسا للفكر وإنما هي الجسد نفسه إذ وجود الفكرة المجردة مرهون بتسميتها، فاللغة بديل مقنن للتجربة ذاتها.

غير أن هذه الإكراهات الذهنية التي درج اللسانيون على تسميتها"النحو الكلي" تجعل احتمالات اللغو محدودة. فالإنسان ليس حرا في أن يقول ما شاء بل ولا أن يفكر في كل ما أراد. إن ثمة ضوبط صارمة تجعل المتكلم ـ بحكم طبيعته البشرية ـ مكرها أن يسير في اتجاه معين ويسلك سبيلا مرسوما له سلفا. من أجل ذلك نستطيع أن نحكم أن مبدأ الإبداعية الذي يعد إحدى الخصائص النسقية السبع التي تميز اللغات الطبيعية، يظل محكوما بمجموعة من الضوابط أو من القنوات الصناغية تصرفه إلى أمم لا يحيد عنه.

وفضلا عن هذه الإكراهات الذهنية تقوم إلزامات أخرى ذات طبيعة اجتماعية وثقافية تجعل من اللغة سلطة تشريعية يحكمها مبدأ " العرف والتواضع" وتنطوي على نوع من القهر إذ هي توجيه وإخضاع معممان كما يقول روند بارت[6] فكل لغة تتعين أكثر ما تتعين لا بما تخول قوله بل بما ترغم على قوله كما يقول ياكوبسون[7].

وإذا كان الشاعر مجبرا على الانصياع لقنوات الصياغة المحكومة بهذه الإكراهات جد الصارمة فما إن يجافيها حتى ينحط إنتاجه إلى درجة اللحن والفساد، فإن المناورة في هامش ما تتيحه تلك القواعد من حرية قد تفتح المحتوى على آفاق متسعة، خاصة إذا كان هذا الشاعر راسخ القدم في الثقافة التي ترفد فكره ومشاعره، ضليعا من ذخيرة اللغة المعبر من خلالها، متمكنا من أبنيتها التركيبية والأسلوبية.

هكذا الشأن عند شاعرنا الذي ندرس في هذا المكان فقد كان له من الملكة والزاد في اللغة العربية ما يعصمه من طائلة الابتذال ويزيد من إثارة القول عنده ومن التعمق في الثقافة التي تقلها اللغة ما يجعل أثره يتبوأ في مصاف الشعر الموريتاني مكانا عليا.

لذا فإن سبرنا للفسيفساء الشعرية في ديوان ابن الطلبه، من خلال البنيتين المعجمية والنحوية، يظل قراءة تأويلية، وكذا ينبغي لها. أذ من البين أننا لا نستطيع أن نفهم نصوصا لمبدعين فصل بيننا وإياهم حاجز الزمن فهما محايدا[8]  إننا لا نفهمهم إلا في ضوء ما يؤرقنا من مفاهيم وإشكالات معاصرة. ذلك أن العلم والمعرفة يتحددان حسب المضمون الاجتماعي التاريخي الذي يلازمهما. إن كل قارئ يقرأ النصوص انطلاقا من اهتمامات تخصه أو تخص محيطه الاجتماعي والتاريخي  الذي يندرج في سياقه. وهو يهدف دائما من خلال قراءته إلى غاية متوخاة. وبهذا المعنى فإن كل قراءة تعد مغرضة ولو بنوع من الإغراض[9] وليس من واجبنا أن ندري ما الذي ينويه المبدع وما الذي يقصده، ولا تهم النوايا في هذا المقام ولا تغني إلا قليلا، وإنما المهم أن ندرك عند قراءة أثره شيئا غير عملية الإخبار التي تلازم في الغالب النص الأدبي أو تشكل أفقا من آفاقه.

إن التواصل اللغوي يفترض بالضرورة عمليتين متقابلتين إحداهما وهي الترميز وتسير من الأشياء والوقائع إلى الكلمات والجمل، والثانية وهي التفكيك وتسير من الكلمات والجمل إلى الأشياء والوقائع. من هنا فإن فهم نص من النصوص هو في الواقع فهم ما يختفي وراء الكلمات والجمل، أي السير منها نحو الأشياء والوقائع.

2 .1. شعر ابن الطلبه بين مبدإ الإبداعية اللغوية وإكراه المعيار: غلاب أم تعامل

إذا كان الإنسان بحكم طبيعة تكوين دماغه وأجهزته الفيسيولوجية ملزما أن يلغو ولكن بالخضوع لإكراهات نحوية ودلالية وصوتية صارمة، فإن أنحاء اللغات المختلفة التي صاغها اللغويون وراعت فيما راعت حقبة معينة باعتبارها النموذج الأمثل لتكلم تلك اللغة قد أتت هي الأخرى بضوابط وإلزامات تجعل عملية التواصل، لكي تتم بإبانة ووضوح، تستلزم الوفاء بسنن الخطاب المتواضع عليه وإلا لما تم التواصل بين المتخاطبين.

غير أن المدعين كثيرا ما يلجأون إلى الخروج عن معيار اللغة ليعبروا عن أشياء يضيق عنها القاموس المتواضع أو السنن المسلوك. وهذا فيما وهذا فيما يبدو لنا من أهم علامات التميز وإكساب الخطاب البشري صبغة الشعرية التي تذهب به بعيدا عن مستوى الخطاب التعبيري/ التواصلي العادي فتمنحه وظيفته الأولى التي هي الإيحاء.

وهكذا لا يحدث الشعر إلا بقدر تأمل اللغة وإعادة خلقها مع كل خطوة من عملية التواصل. وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو وقوانين الخطاب[10]لذا فإن سبب استعصاء الشعر على الترجمة عكس الخطاب العادي يرجع في جزء كبير منه إلى تمفصله اللغوي الخاص الذي يجعله لصيق بعبقرية اللغة المعينة وشكل منطقتها للعالم. فالعبارة تعطي المحتوى في حالة اللغة الشعرية شكلا أو بنية خاصة وتخرج بها على استعباد اللغة. إنه كما يقول روند بارت" مراوغة اللغة ومحاولة خيانتها بشكل ملائم"[11].

بقراءة متأنية لشعر ابن الطلبه نستطيع أن نقول فيما يخص البعد المعجمي والنحوي إنه قد متح كثير من المعجم البدوي في لباسه الإسلامي فجاءت المفردات خزلة مشحونة بكل الإرث الثقافي العربي والإسلامي إن على مستوى الدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية. كما جاءت الجمل هي الأخرى منساقة للتصاريف اللغوية والتشاقيق الأسلوبية والطرائق في التعبير المعتمدة في ذلك العهد. غير أن قدرات التأثير التي ينطوي عليها شعره لا تتوقف على التزامه الديني والأخلاقي كما لا تتوقف على المحتوى العلمي والتميز اللغوي لنصوصه وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة ونقله من بعدها الخطي إلى بعد موجي ما دام معيار اللغة لا يسمح بالانزياح إلا في حدود ضيقة غالبا ما تكون ملحوظة ثي الأخرى برقيب "التقليد والمواضعة" فتكبح حينئذ وبقوة من جسارة اللغة. لكن الشاعر المتميز هو الذي يكون سيدا ومسودا في ذات الوقت فيتمن من أن يزاوج بين ذلك الخضوع وتلك السلطة في اللغة وبين القيام بإنجازات لغوية "موسومة" تذهب بالنص من مستوى الإخبار والتعبير المباشر إلى مستوى "الشعرية". فاللغة نقطة البدء والمعاد، والشعر انزياح منظم وقانون للانحراف.

ولا شك أن ابن الطلبه يحترم معيار اللغة العربية إلى حد التقديس ويعي أن النص الشعري يدين للغة بوجوده الظاهري على الأقل ولكنه يعلم، فيما يبدو، متى يكون الابتكار أحد عناصر الجمالية ومتى يكون المعيار أحد عناصرها. وما دام الانزياح ناتجا، عنده بالأساس، عن التعارض بين المعجم والنحو فمن الضروري تغيير أحدهما بتغيير معنى الكلمة أو تغيير وظيفتها. وفي البيت  4 من النص 82.

أسائلك عن حي الشقيقة إنني

و إياك ياراعي لمستئلان

 وهو مشهور عند العامة حتى قيل إن أحد أكابر علماء اللغة قد عابه عليه لما عهد فيه من الفصاحة ومجافاة اللحن والسوقي خير دليل على هذا التردد بين المعيار والابتكار.

2.2.         معجم ابن الطلبه: من التاريخية إلى الآنية

تنمو اللغة وتزداد قدرتها الاستيعابية ككل بنية انطلاقا من آليات التوسع الذاتي الذي يعرف اصطلاحا بـ "التوليد الصوري"ويرتبط هذا النمط من التوليد عموما بظهور متوالية صوتية جديدة بمعنى معجمي جديد كما يحصل في المولدات الناتجة عن عمليات الاشتقاق أو التعريب أو الاقتراض أو النحت. كما تتسع قدرات اللغة الاستيعابية والتعبيرية بفضل التوليد الدلالي الذي هو إبداع لمعان معجمية وتراكيب دلالية جديدة. وذلك بظهور معنى جديد أو قيمة دلالية حادثة لكلمة موجودة أصلا في معجم اللغة مما يسمح لها بالظهور في سياقات أخرى لم تتحقق فيها من قبل.

ولا شك أن للبيئة والمحيط القافيين اللدين يؤطران اللغة دورا جد مهم في حولان المعجم وتبدله من حال إلى حال. فبمرور الزمن تموت بعض الوحدات وتضمحل أو تستحيل من معنى إلى معنى آخر جديد. فاللغة في مظهرها المعجمي تقوم أول ما تقوم على أساس" المواضعة والتعارف".انطلاقا من هذا التصور التطوري يمكن أن نحقب معجم اللغة العربية مثلا منذ أول ما نعرفه منه مع الجاهليين إلى مجموعة من الطبقات وإن كانت الصناعة القاموسية العربية مازالت تشكو نقصا حادا في علم التأثيل. فلا نجد لحد الساعة قاموسا يتحدث عن أصل الكلمة وبدء استعمالها ومتى تدوولت وكيف انتقلت من معنى إلى معنى وما هي إمكانيات التجوز فيها؟ كما الشأن في أغلب اللغات الحية الأخرى.

غير أننا. بفضل ألفة العمل المعجمي العربي، نستطيع أن نفيئ بشكل مرحلي مفردات اللغة العربية إلى حقب ثلاث: معجم الثقافة البدوية الذي يشمل الحقبة الممتدة من عصر الجاهلية إلى أيام التدوين، معجم الثقافة الحضرية و الترجمات الذي يمتد من صدر العصر العباسي إلى عصر الدولة العثمانية ومعجم ما بعد الاحتكاك بالحضارة الغربية والارتباط بها عضويا الذي ظهرت أرهاصاته مع الحملة الفرنسية على مصر وما زال يستمر إلى الآن.

يمكن أن نقول إن معجم ابن الطلبه قد اعتمد على المحور الزماني في أغلبه. كما تشي بذلك المعارضات التي توترت عنده وهذا ما يؤكد أن اختياره كان منصبا بالأساس على الحقبة الأولى من حقب تاريخية المعجم العربي. ولا شك أن تواتر بعض الألفاظ في مدونته من مثل الصدى ، الوداد و الود، الشجو، الوشم ، الجفن، الهضبة والجبل والباذخ والذرى الشيب والشيوخة والموت ومر الليالي، الملوان، الحدث، الحدثان الجنون، اللوم، الهوى، العرفان، عاج، الرسم، الطلل، هاج الهيجان قد يؤكد هذا الاختيار الذي يمثله أبلغ تمثيل المقطع التالي حيث في الأبيات 31 إلى 35من النص 40.

                                                                                                                                                                                                                                                                                         (الطويل)

على زورة مثل الفنيق مدلة

بهاد منيف كالسقيفة جرشع

تذب بشمراخ كأن فروعه

قرون هدي فتلت يوم زعزع

كأن قتود الرحل غب كلالها

على ذي وشوم رائح أو هجنع

تعارضه زبد تزف عشية

إلى زعزع حفان ببيداء بلقع

أذلك أم جون السراة مكدم

يقلب حقبا من نحوص وملمع

 نستخلص من هذا أن ابن الطلبه لم يحتج – كما هو شأن الكثيرين – إلى معجمة بعض الألفاظ غير العربية أو التوكؤ على متكلمات شعبية للتعبير عن ما يريد قوله. وقلما سلم شاعر من السلوك الافتراضي من أجل إثراء معجمه والتوسل للتعبير عن ما يدور في خلده وإن وجدناه قد وظف تعبيرا حسانيا صاغه في لغته الجزلة وهو الوارد في البيت الخامس من النص 70

فلئن ظل بالديار تريه

ذكر الحي بالهجير النجوما

ولا جرم في ذلك، ترجربة تأخذ مكانها ضمن إطار واسع من التضمنات الثقافية. إن كل تجربة هي ثقافة وتجربتنا مع العالم تتم بشكل تكون فيه ثقافتنا حاضرة باستمرار في التجربة نفسها.

وخلاصة القول أن ابن الطلبه ككل شاعر مبدع يقول ما يرغب فيه ولذلك فهو لا يشبه أحدا ولكن إذا كان ما يقوله يبقى خاصا به ولصيقا بشخصه فإن طريقة التعبير ليست خاصة به. إنها تظل كيفيا طريقة تعبير جنس معين، وكميا طريقة تعبير خاصة بعصر ما. فلا يوجد لسان شعري إذا كنا نقصد بكلمة لسان مجموع الكلمات، ولكن توجد لغة شعرية إذا كان المقصود بلغة بأليف الكلمات فيما بينها أي تركيبها في جمل.

3.     النص الشعري عند ابن الطلبه من البنية التركبية إلى الحقل التداولي

نعني بالبنية التركيبة عملية التألف التي بموجبها ينشئ المتكلم متواليات صوتية ذات دلالة صدقية. أما الحقل التداولي فنعني به ذلك المجال الرحب الذي تقف عنده حدود الدلالات اللغوية لتبدأ دلالات أخرى ترتكز على مبدإ المقام والسياق والصدق المنطقي.

وسنحاول تتبع هذا الانتقال من خلال أربع واقعات أسلوبية: زحلقة الرتبة، وتوسيع الإطار الحملي، وهندسة الربط الإحالي، وتوجيه الدلالات القضوية نحسبها من أهم الآليات الإبداعية التي اعتمد عليها الشاعر في ديوانه لإثارة القارئ حيث الإثارة ليست صفة خاصة بالشيء في ذاته ولكنها تلك القدرة على أيقاظ الشعور بالجمال في النفوس. فطبيعة الفرق بين الخطاب العادي والخطاب الشعري يكمن في نمط خاص من العلاقات التي يقيمها الشعر بين بين الدال والمدلول من جهة وبين المدلولات من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى استنفاذ مخزون الإمكانات البلاغية المتوفرة. ومن هنا نميز بين أثرين للعبارة: توصيل واقعة وإحداث انفعال. والشعر هو تأليف أو مناسبة معينة بين الوظيفتين وطريقة الوعي بالأشياء من خلالهما.

 

 

3-1 زحلقة الرتبة

 

تمتاز اللغة العربية بعدم ثبات ملحوظ في بنيتها الرتبية مما يسهل تصنيفها في عداد اللغات اللاشجرية.وبالفعل فظهور العلامات الإعرابية على أواخر الكلم يحعل لمتكلميها هامش حرية وإن لم يكن على إطلاقه في وسم الرتبة داخل الإطار الحملي للمحمول. ولئن كانت تلك الم ونة في الموقعة الخطية مميزا له حدود وضوابط تحد كثير من إنتاجيته فإنها تبدو معينا ثرا لإغناء الحمولة الدلالية والتداولية للخطاب إذا أحسن توظيفها فنجحت في توسيع مداه الترميزي والإيحائي كما تظهر طريقا أقصد للارتفاع بالنص الشعري عن مستويات الخطاب التواصلي الصرف

وسنعرض نماذج من شعر ابن الطلبه ترصد هذه الظاهرة؛

فيقول في البيت 1و 4و 5من النص 54.

لا القلب عن أم المؤمنين سلا

ولا أرى عاذلاتي تترك العذلا

هي التي من هوها الجسم قد نحلا

والبين جار على قلبي وما عدلا

هي التي ألبست غيد الورى خجلا

وتحت أخمصها اليافوخ من زحلا

فنلاحظ أهمية تقديم المفعول غير المباشر (هي التي) عن عامله في البيتين ولا شك أن تبئر المفعول هنا بزحلقته إلى الربض الأيمن للجملة يكسبه أهمية دلالية واضحة نرى أن مفعولها يقوم على نوع من الحصر والاستعظام والتنبيه إلى أهمية اللفظ المزحلق. ونلاحظ نفس الحادثة الأسلوبية في البيت 1و 2و3 من النص52.

ألوى بصبك والدموع أراقها

شوقا فراقك من تخاف فراقها

قد شاق نفسك بينها ولطالما

قد كنت تحذر ذا الذي قد شاقها

وبقيت تندب ربعها ألقت به

غر السحائب غدوة أرواقها

كما نلاحظ في البيت 1و2 من النص 72.

منع المنام فلم أنم في النوم

خبر جواه قد تمخخ أعظمي

لما أتاني أن مية دونها

حالت زواجر في الكتاب المحكم

وفي البيت 2و4 من النص 73.

 

يزجي حبيبا إذا ما هد هيدبه

رعد يثج ثجيجا ليس ممنونا

أسقي به المرج مرج الجذع حيث به

أمسى وأصبح عد المجد مدفونا

وفي البيت 1و 3 من النص 87.

فتن القلب يالقومي فتونا

دل ميمون فاستجن جنونا

بغضيض يود بالنفث منهم

فعله بالمغفل البابلونا

 

3-2 توسيع الإطار الحملي

 

تعتبر الجملة الوحدة الدنيا للخطاب في اللغات الطبيعية. وتتشكل الجملة لزوما من محمول أي مقولة معجمية تمتاز بخاصيتين هما الفراغ الإحالي والقدرة على التأثير في المقولات المعجمية الأخرى التي يضمها وأياها نفس الخطي.

لذا فكل جملة هي عبارة عن محمول وإطار حملي يمثل إسقاطات المحمول على المستوي الخطي.

غير أن الإطار الحملي قد يضم موضوعات غير ذات صلة لازمة بالمحمول بحيث قد تستغني عنها مما يضعف عنها مما يضعف أهميتها النحوية وإن كانت تلعب أدوارا ووظائف دلالية وتداولية بالغة الأهمية على مستوى المضمون. ويمثل توسيع المحمول أو تضيقه عينا ثرة للانزياح والإثارة. فقد ينحو الشاعر منحى اختزاليا فيقلص جملة ويطويها طيا، ذلك أن الخطاب ملتزم بتمكين المتلقي من جملة من الأخبار التي يتطلبها إلا أن الحرص على الاقتخاد يجعل المتكلم يحذف أخبار يستطيع المتلقي استنباطها من المقام. وقد ينحو منحى زخرفيا فيملؤها بالأطر الحملية الموسعة.

ولذا نقول إن الحشو والطي مقومان يميزان اللغة الشعرية وتتردد بينها الأساليب تماما كما يتردد الشاعر بين حال البسط أحيانا والقبض أحيانا أخرى.

يمكن أن نرصد نماذج من اللعب على الإطار الحملي عند ابن الطلبه من خلال المثاليين:

يقول في البيت الرابع من النص 53

وغدا العواذل في البكاء يلمنني

والعين تسكب لوعة رقراقها

 

فنرى في هذا البيت أن إطار المحمول "غدا"قد توسع عن مستواه النووي (العواذل يلمنني) إلى مستواه الموسع (في البكاء ) و(العين تسكب دمعة رقراقها). ومن الواضح أن الإتيان بهذا الإطار الموسع يلعب دورا شعريا بارزا حيث يخصص طبيعة العذل وسببه. وما ذلك لأجل الإيضاح والبيان وإنما من أجل استنكار العذل في هذا النوع من الموافق والطعن على أولئك الذين لا يفهمون مثل هذا الموقف فلا يقدرونه حق قدره.

ويقول في البيت السادس من النص86.

أم هل لوصل فرقت أوصاله

أخرى الزمان يد الفراق تدان

فعبارة" أخرى الزمان" أتى بها الشاعر هنا لا لبيان المقولة الزمانية للحدث وإنما للجزع من هذا البين الذي تزامن ومرحلة الشيخوخة وهي مرحلة الضعف النفسي والبدني والخوف من المجهول الذي يحمله تعاقب الأيام. فالزمن هنا أتى به الشاعر ليرمز للقدر والفناء والنسيان ويقول في البيت الأول من النص70

إن بين العقيق من بطن موج

وقديس لآل هند رسوما

نلاحظ في تبعيض لفظة العقيق بعبارة" من بطن موج" هنا أن الشاعر يريد أن يغالب ظرف المكان فيحرص على بيانه بدقة لكي لا يضيع بفعل الرياح والسافيات والأمطار المعاورة، وعدم أبه بني البشر ممن لا إحساس له ولا غصة. والمكان كما هو معروف عند الشعراء بعد مهم من أبعاد المنزلة الإنسانية ورجع صدى مستديم لحولان الحادثات وتقلب الأوضاع والحالات.

ونلاحظ الشعور نفسه في تحديد المرابع بلفظة "بالحو" في البيت الثاني عشر من النص69

فكيف القرارا بعدما قيل يممت

مرابعها بالحو أظعان مريما

3-3. هندسة الربط الإحالي

 

تمثل الضمائر آلية مهمة لبناء جمل اللغات الطبيعة. فكل لغة نظامها الخاص في عود الضمائر وكيفيات الإحالة بها داخل الكلام. ويختص هذا الصنف من الوحدات المعجمية الذي يطلق عليها الإشارايات بأنه نوع من الكلمات يتغير معناه بتغير المقام. فالضمير إنا يدل، حسب القانون على الشخص الذي يبث الرسالة إلا أننا نرى أن هذه الإشارة تظل ناقصة، فالضمير إنا عكس الإسم الذي يشير إلى شخص بعينه يمكن أن ينطبق على أي أحد كان.وللغة العربية عبقريتها الخاصة في هذا المجال التضسير والإحالة. فيلعبان إضافة إلى وظيفة التعيين مع عدم الوسم الشخصي دورا آخر بالغ الأهمية في التصرف في القول بالخروج عن مألوف التركيب، وبالتالي في الانزياح والإثارة[12]ونرى في شعر ابن الطلبه مجموعة من الحالات الأسلوبية يقوم فيها الإضمار بإضفاء جزء كبير من سمة الشعرية على الكلام.

يقول في البيت السابع من النص 41.

أخادع النفس عنهم وهي خادعتي

جهلا وما كنت من رأيي بمخدوع

نجد في الشطر الأول من هذا البيت استعمال الشاعر للضميرين المنفصلين "هي" والمتصل "ي" وقد تلاحقنا بشكل فوري ليحيلا على درجة التداخل بين النفس التي ترمز إلى الحبيب والشاعر. وكأن النفس شيء آخر تمايزا في الذهن ولكنهما امتزجا في لعيان.

ونلاحظ نفس اللعب بالضمائر لإحداث تلك وإكساب النص بعده الشعري الصارخ في البيت التاسع من النص87

هي جنية وليست بإنس

ما كها الإنس قبلها يفعلونا

أما في البيت الخامس عشر من النص40

وتشهد أيام الصبا عند ربها

بأن ليس فيها مثل رأس الذريع

فنرى في الضمير (ها) من كلمة "ربها" قوة التعبير عن وقع تلك الأيام التي ذكرها لفظا صريحا ثم ضمرها ليبرز مدى التعاليق بينها وإياه وذلك التواشج بينه وتلك اللحظة من الزمن وليبين قوة الشوق إليها والحنين وذلك بربطها بكلمة "رب" التي ترمز هنا للشاعر أو نفس الشيء نراه في البيت العاشر من النص 86

نفس تخوفها الفراق تخوفا

فالبين أخوف ما أخاف علاها

 

وكذلك في البيت الأول من النص90

قلت إذ خبر المخبر عنكم

أنكم جئتم هنا مرحباه

أما في البيت الخامس والعشرين من النص40

فيامن رأى مثل اللواتي نزورها

ومثل الألى يأتونها زورا معي

فالتضمير هنا بواسطة الموصول يشي بإبهام المذكور واستعظامه وإعطائه تلك الهالة السحرية من الغموض والتمنع عن الإدراك.

أما في البيتين العشرين والواحد والعشرين من النص89

ياليت شعري هل تذكر عهدنا

من لا يزايلنا جوى ذكرها

يا صرم ما وصل أتى من دونه

بعد الهضاب من الرمال ذراها

فيأتي الحضور الذهني في الضمير العائد على غير مذكور ليبين مدى شحن الشاعر وتعلقه بالمحبوب.

3-4.توجيه الدلالات القضوية:

تقوم دلالات الجمل في اللغة على أساس تأليف دلالات المكونات المقولية المؤسسة للجملة أو موضوعاتها. ويعبر عن ذلك المناطقة بمفهوم التصديق الذي هو الحكم على التصورات للوصول إلى قضايا. غير أن رصد المعاني التي تحملها الجمل لا يأتي بشكل كاف إلا إذا استطعنا فهم التسوير الجيهي للجمل هو توجيه للجملة يجعل لها قوة إنجازية معينة.

ويختلف المبدعون من الشعراء والأدباء كثيرا في التحكم في التوجه القضوي. لأنه بالإضافة إلى ما يضيفه من اكتناز وثخونة على الخطاب فإنه يلعب دورا آخر في إثارة المستمع أو القارئ لما يكسبه هذا التوجه عادة للنص من شعرية عن طريق تكثيف البؤر الدلالية. فعندما نعاين البيت العاشر من النص 29:

أوحش النيش بعد أتراب جمل

ولقد كان آهلا معمورا

نرى أن المزاوجة بين التوجه الخبري للحدث في البيت والتوجه التعجبي التأسفي هي التي أعطته ذلك المعنى الشعري الراشح بالغصة الوجودية حتى لكأن هذه الواقعة المتحدث عنها ترن في كل نفس صدى لماض آهل توارى وامحى في غيب الزمان.

ونلاحظ الشيء نفسه في الأبيات الثلاث الأولى من النص60

صاح قف واستلح على صحن جال

سبخة النيش هل ترى من جمال

قف تأمل فأنت أبصر مني

هل ترى من حدوج سعدى التوالي

هل ترى من جمائل باكرات

من لوى الموج عامدات الزفال

 فإن دور أداة الاستفهام في التوجيه القضوي للواقعة وما يستلزم ذلك من نقل للدلالة من مستوى إنشائي واضح في أداة التسوير "هل" إلى مستوى خبري هو الواقعة الفعلية التي يريد الشاعر أن ينقلها.

كما نحس نفس الإحساس في البيتين الأولين من النص 37

لمن الديار عفون بالنمجاط

فالملزمين كمنهج الأنماط

فربى اندوشت فذي الحديج فذي ذوي

مائة سقاها واكف الأشراط

فالتوجه الاستفهامي هنا لا يمثل المقصود الخبري فقط للشاعر، كما لا يعطي وحده الصبغة الشعرية التي اكتسبها النص، وإنما بانصراف التوجه من مستواه المقولي الصرفي الصوتي إلى مستواه النحوي الثاوي.

ولأمثلة ترد تترى على هذا النمط من التسوير المنطقي الدلالي في ديوان ابن الطلبه. غير أننا نجد في البيتين السابع والثامن من النص 60نمطا آخر من التوجه يتم بالجملة الاعتراضية التي تلعب غالبا دورا دلاليا تنصرف فيه وجهة الخطاب من مساق معين نحو مساق جديد ليتشكل نمط من العلاقات في نسيج النص يقوم على أساس التجاوز والتقابل.

قال ما في سوالف الظعن سعدى

وتصابي الكبير عين الضلال

قلت إن الظعائن اليوم هاجت

شجنا بالمشيب ليس يبالي

فورود الجملة الإنشائية في الشطر الأول صريحة في وضع دلالي مخصوص (وجود سعدى في الظاعنين)ثم ربطها بالجملة الخبرية التي تنصرف كنوع من التداعي الذهني نحو حالة دلالية بالحكم عليها (تصابي من طعن في العمر) يشي بنوع من التسوير للشطر الأول.فكأن الشاعر يقول لماذا هذا التساؤل عن الظاعنين وعن سعدى وأنت الرجل الوقور الذي تقدمت به السن وحان منه الارعواء.

4- أثر المعجم والتركيب على المستوى الدلالي والوظيفة الشعرية

إذا كان التركيب والمعجم مستويين من مستويات التمثيل للغة فإن لهما ارتباطا قويا بالدلالة سواء على مستوى إسقاطاتهما المباشرة في مستوى التمصل المزدوج أم على مستوى إسقاطاتهما النهائية في بنية النص وشكل تناسبه عن طريق شبكة العلاقات المعجمية والتركيبية فيظهر أمامنا كانزياح مطرد النمو.

ومن خلال النماذج التي رأينا من شعر ابن الطلبه يمكن القول إن للنحو طاقة "مشعرنة" وهذا ما جعل جاكبسون يقول: "نادرا ما تعرف النقاد على المنابع الشعرية المستترة في البنية الصرفية والتركيبية للغة أو باختصار على شعر النحو"ومنتوجه الأدبي"[13].

وأن استعمال اللغة نشاط إبداعي بالأساس مثلما هو الحال بالنسبة لفهمها. فالمعنى ييني عوض أن يكتشف والاستعارات والكنايات لها القدرة على خلق واقع جديد.

فالجديد من الاستعارات والكنايات عندما يدخل النسق التصوري الذي تقوم عليه تصوراتنا يلحق تغيرا بهذا النسق وبالأفعال والإدراكات التي يؤطرها. فكثير من التغيرات الثقافية إنما تنشأ عن تدخل النسق التصوري الذي تقوم عليه تصوراتنا يلحق تغيرا بهذا النسق وبالفعل والإدراكات التي يؤطرها. فكثير من التغيرات الثقافية إنما تنشأ عن تدخل تصورات استعارية وكنائية جديدة واختفاء أخرى قديمة.

إن شعر ابن الطلبه كما يقوم على استراتيجيات نحوية رأينا أمثلة له في الفقرات السالفة فأنه يقوم أيضا على مسلكيات معجمية منها ما يرجع إلى القاموس بانتقاء الألفاظ الدالة والمشعة ومنها ما يرجع إلى دلالات الألفظ وطرق التجوز فيها والانزياح. ولا شك أن هذا القسم الأخير حادثات أسلوبية حرية بالترصد والتحليل.

فالاستعارة التي تملأ نصوص الديوان لا تعد في الحقيقة خاصية للغة فحسب بل هي حاضرة معنا باستمرار في حياتنا اليومية ليس فقط على مستوى اللغة بل أيضا على مستو الفكر والفعل. فللصور المجازية ما يقابلها في مجالات سلوكية أخرى غير الكلام وهذا ما يفسر لنا دور المحيط الطبيعي والإسار الثقافي للشاعر في تحديد نمطية الاستعارات.

فأنساقنا التصويرية العادية التي نفكر بها ونعمل على ضوئها هي بالأساس أنساق استعارية في طبيعتها. ذلك أن جوهر الاستعارة يكمن في فهم نمط من الأشياء والتعامل معه من خلال نمط آخر[14] ولذا فإن كثيرا من المجاورات والمشابهات التي ندركها قائم على التصورات الكنائية والتصورات الاستعارية على التوالي[15]. مجاورات تنتجها تصورات كنائية بين الجزء والكل أو بين السبب والمسبب إلخ. ومشابهات تنتجها تصورات استعارية اتجاهية أو انطولوجية بين الزمن والمادة فنتمكن من تسوير الزمن وجعله وعاء وتجزئته إلى وحدات لها قيم معينة أو بنيوية[16]

5.الخاتمة

 

انطلاقا من هذه الرؤى والتأملات الخاطفة يمكن أن نقول دون كبير عناء إن شعر ابن الطلبه يمثل عينة ذات دلالة في صرح الشعر العربي عموما ومحطة بارزة من محطات الشعر الموريتاني على وجه الخصوص. لقد تبدى ذلك لنا انطلاقا من هذه الزاوية اللغوية الصرف التي حاولنا من خلالها وصف مدونته الشعرية فأبرزنا نماذج من الإبداع ومواطن من التميز في ديوانه ذهب فيها شأوا بعيدا في ارتياد مجاهيل الشعرية وركب لذلك سبيلا من اللغة بكرا، وإن حافظ فيها، كما ينبغي له، على معيار اللغة العربية الررويم. ومن الطبيعي أن تأتي مدونة ابن الطلبه تحمل الكثير من ملامح القول عند شعراء الجاهلية وصدر الإسلام فالنصوص الإبداعية مهما بلغت من التميز والتفرد ليست في الحقيقة سوى سلسلة ن الأصداء التناصية التي تحضر فيها باستمرار وعلى درجات متفاوتة ظلال الحفظ السابق أو التبني والإعجاب. فقديما قيل إن سر امتلاقك المهارة الشعرية يمكن في استظهار عدد كبير من النصوص ثم نسيانها بعد ذلك أو تناسيها.

هكذا الشعر إذن في أخص خصائصه وألصق علائقه بالنفس البشرية توق إلى المغامرة والانعتاق على مستوى المضمون[17]أول ما يكون ثم بعد ذلك على مستور الشكل مادام المضمون لا يتحدد إلا من خلال تحققه المادي جملا وألفاظا. إن الشاعر هو من زاوج بين الرافد اللغوي واللحظة الإبداعية فأحيا نار المستمع أو القارئ من رماد بطريقة قوله وتوظيفه للغة والرموز توظيفا بالغ الكثافة الإيحاء حتى لسحره منها الرواء والطلاوة وليثيره في نفسه ما كان يعتلج في نفس الشاعر ويمور حتى ليتهب في داخله عواصف هوجاء من الوعي والشعور المقلق بالجمال وبالفناء ولتنشحذ همته سيفا ماضيا لنشدان المطلق بتجاوز القيود والحدود والانزعاج من الإلف والعادة وأسر اللحظة فإذا هو ير في نص الشاعر أوساعا لا تنحد وأبعادا لاتدرك.

6. المراجع:

ابن الطلبه، (محمد) ، ديوان محمد بن الطله اليعقوبي، تحقيق محمد عبد الله بن الشبيه، مراجعة: محمد سالم بن عدود، تقديم محمد بباه بن محمد ناصر، نشر أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه – دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2000م

إينو (آن)، مراهنات دراسة الدلالات اللغوية، دار السؤال بدمشق، دمشق، 1980

بكار (توفيق)، أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف، تقديم رواية" حدث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي، دار الجنوب للنشر تونس 1984.

جحفة (عبد المجيد)، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000

رولان بارت، دروس السيميولوجيا (المعرفة لأدبية)، ندار توبقال، الدار البيضاء،6، ترجمة ع. بنعبد العالي.

العروي عبد الله ووآخرون، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية (معالم) دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1987.

غاليم (محمد)التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم (المعرفة اللسانية أبحاث ونماذج)، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1987.

الفاسي الفهري(عبد القادر)، المعجم العربي نماذج تخليلية جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الاولى 1986

الفاسي الفهري (عبد القادر)، المعجمية والتوسيط، نظرات جديدة في قضايا اللغة لعربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1997

كوهن (جان)بنية اللغة الشعرية(المعرفة الأدبية) دار توبقال، الدار البيضاء الطبعة الأولى ترجمة محمد الولي ومحمد العمري.

مبارك حنون دروس في السيميائيات (توصيل المعرفة)، دار توبقال، الدار البيضاء الطبعة الأولى 1987.

مفتاح (محمد)دينامية النص (تنظير وأنجاز)المركز الثقافي العربي بيروت، والدار البيضاء، 1987.


 

[1] محمد بباه بن محمد ناصر، مقدمة ديوان محمد بن الطلبه اليعقوبي الشنقيطي الموريتاني، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1999، ص، 52،53

[2]  عبد الله العروي وجماعة، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية (معالم )دار تبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى1987، ص،2 و 3.

[3] عبد القادر الفاسي الفهري، المعجم العربي نماذج تحليلية جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1986 ص 80.

[4]  محمد غاليم التوليد الدلالي في البلاغة والعجم (المعرفة اللسانية أبحاث ونماذج)، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987ص 25.

[5] ن،م.

[6]  دروس السيمولوجيا (المعرفة الأدبية) دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1986، ترجمة ع. بنعبد العالي، ص54.

[7] عبد المجيد جحفه، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء الطبعة الأولى 2000ص25.

[8]  آن إينو، مراهنات دراسة الدلالات اللغوية، دار السؤال بدمشق، الطبعة الأولى 1980ص، 19.

[9]  عبد الفتاح كليطو، مسألة القراءة، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية (معالم) دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء الطبعة الأولى 1987ص 19.

[10] محمد عبد الفتاح دينامية النص(تنظير وإنجاز) الطبعة الأولى 1987 المركز الثقافي العربي بيروت ـ لبنان، الدار البيضاء ـ المغرب ص 89.

[11] رلان بارت، دروس السيميوجيا، ص62

[12]  حنون مبارك، دروس في السيميائيات (توصيل المعرفة) دار توبقال، الدار البيضاء، الطبيعة الأولى 1987، ص14.

[13]  جان كوهن، بنية اللغة الشعرية (المعرفة الأدبية) دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1986 ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، ص 176.

[14]  محمد غاليم، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، ص31.

[15]  عبد القادر الفاسي الفهري، المعجمية والتوسط نظرات جديدة في قضايا اللغة العربية المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1997 ص 69.

[16]  عبد القادر الفاسي الفهري، المعجم العربي ص52.

[17] توفيق بكار، أوجاع على التاريخ العاصف، تقديم رواية" حديث "أبو هريرة "لمحمود المسعدي، دار الجنوب للنشر تونس 1984الصفحات 5 إلى 7.

القائمة

من أدب ابن الطلبة الحساني المزيد

من غزل ابن الطلبة  المزيد

محمد بن الطلبة المولد والنشأة  المزيد

المعجم الشنقيطي العربي المزيد

شعر محمد بن الطلبة المزيد

محمد بن الطلبة المولد والنشأة  المزيد

التعاون المغاربي يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع مؤسسات المغرب العربي بما في ذلك الموروث الثقافي البربري العربي 

المعجم الشنقيطي العربي المزيد

التعاون العربي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات العربية المحلية والدولية   المزيد

التعاون الإفريقي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات الإفريقية النشطة في المجال  المزيد

التعاون الدولي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع الهيئات الدولية المزيد

التعاون المغاربي يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع مؤسسات المغرب العربي بما في ذلك الموروث الثقافي البربري العربي 

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث  مركز محمد بن المزيد

التعاون العربي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات العربية المحلية والدولية   المزيد

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث  مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث مركز محمد بن المزيد

التعاون الإفريقي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات الإفريقية النشطة في المجال  المزيد

التعاون الدولي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع الهيئات الدولية المزيد

 
top Back to top