ISET

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث : مجال اهتمامات المركز ومشاغله البحثية يتجاوز الأشخاص والجهات، مركزا على شتى ألوان الثقافة العربية الإنسانية التي أنتجتها هذه البلاد وما جاورها؛ دون أن نغفل الثقافة الإنسانية العربية والعالمية منها عموما
 اتصل بنا من نحن بحوث مرويات النشاطات الرئيسة
 

بقلم سيد احمد ولد الدي :  

مدرس باحث

 

انطباعات حول الغزل في ديوان محمد بن الطلبه :

 

يكاد من يقرأ ديوان محمد بن الطبلة يخرج بقناعة راسخة وهي أن جل شعره إن لم يكن كله، نابع من صميم مشاعره الذاتية؛ عاكس لتجربة عاطفية وروحية وتشبع بالثقافة الشعرية البدوية التي هضمها فسرت في دمائه، وتمثلها في تفاصيل حياته التي كان يحلو له  أن يعيش خلالها مختلف أوضاع الفتى البدوي المرهف الأحاسيس.

ولو أن بن الطلبه لم يجمع إلى خصال الشاعر صفات الفقيه ذي المنزع الصوفي الذي تسبغ عليه بيئة مجتمع "الزوايا" وأخلاقياته لونا خاصا لما تميز عن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام الذين جعلهم مثله الأعلى.

ولست أرى أن معارضات الشاعر للأعشى وحميد والشماخ قد وضعت أصلا من أجل المعارضة والمشاكلة، وإنما أبدعها الشاعر عفوا، وعند ما أخذ يقلبها وجد أنها تفوق قصائد مماثلة لها في التراث الشعري العربي. إذ من الواضح أنها لو كانت صممت أصلا من أجل التقليد لما طفحت بالشاعرية وقوة التأثير.

إن أبر جزء من الديوان مخصص للنسب والتغني بالمشاعر، سواء كان ذلك من خلال ذكر المحبوبات، وهن كثر، وإن كان بعضهن أحظى لدى الشاعر ممن بعض، وما يستتبع ذلك من ذكر الأماكن التي حللنها أو رحلن منها أو مررن بها بين الحل والترحال ، أو تتبعهن الشاعر فيها على ظهر ناقته أو جمله، أو تذكرها لعارض عرض له. أو شام برقا نحوها أو سرى إليه خيال منها. فالمرأة والمكان والمطية أجزاء من لوحة واحدة لا تكاد تتغير في جوهرها وهي تحتل أكبر حيز في شعر ابن الطلبه من حيث المضمون ومن حيث هندسة القصيدة.فالبنية الثانية لديه هي بنية القصيدة الجاهلية التي تبدأ بالوقوف على الطلل ووصفه ومساءلته وإذراف الدموع فيه ثم تذكر يوم الفراق، يوم ظعن الحي، ثم يفيض في الحديث عن الحديث عن الظعائن والحدوج ومن تكنسنها، ثم يذكر كيف تبعهن واصفا رحلته مخصصا أكبر جزء منها لوصف مطيته والإفاضة في صفاتها الجسمية وسرعتها مقارنا هذه السرعة بسرعة حمار الوحش، يتوسع في وصفه ووصف القطيع الذي يستوقفه نحو الماء بعد أشهر من الجزء، وهبوب رياح الصيف ولإحساس بشدة العطش مع استطراد وتفصيل كثير.

ثم يأتي مقارنة أخرى بمهاة مفجعة في ولدها قد تناوشته مخالب السباع حيث تبقى أياما وهي تتوقع أن تسمع له صوتا، واصفا حلات خوفها وتوجسها، حتى اليوم الذي يهاجمها فيه صياد بكلابه المتمرسة، هم تبدأ عملية المطاردة التي كثيرا ما تنتهي بانتصار البقرة الوحشة بأن تفوت الكلاب أو تعطف على بعضها طعنا وتمزيقا.

والمقارنة الثانية، وهي دائما في مجال السرعة، تكون بالنعام الذي ذهب بعيدا عن مكان بيضه أو أفراخه ثم يتذكرها فجأة فيندفع نحوها. والرابعة هي بعقاب ينقض على صيد من عنان السماء.

غير أن الفرق بين ابن الطلبه والشعراء القدماء هو أنهم في الغالب يصلون إلى غرضهم الأساسي، الذي يجعلون كل هذه المقدمات سبيلا إليه، بينما يقتصر محمد في الأغلب على هذه المقدمات جاعلا منها غاية في ذاتها لأنه لا يقصد إلى ممدوح ولا إلى مهجو، وإنما يخللها أحيانا بشيء من الفخر أو أغراض أخرى من وحي المناسبات الحميمة. فشعره منه وإليه. وكثيرا ما يعود إلى النسيب أيضا في خاتمة القصيدة ليظهر أنه لا يزيف عاطفته ولا يصدر عن تقليد لسنة شعرية متحجرة بل يصدر عن انفعال حقيقي سخر شاعريته للتعبير عنه. وإذا سلمنا جدلا من خلال هذه النظرة بأن محمد بن الطلبة كان يتغنى بمشاعره[1]

ملتصقا ببيئته البدوية معبرا من خلال ثقافته الأدبية واللغوية الواسعة عما عبر عنه القدماء من خلال بواعث وأطر طبيعية مطبقة تمام المطابقة لظروف الشاعر، فإننا نخلص إلى أن شاعرنا عاش القديم بأبعاده النفسية والفكرية والوجدانية واللغوية بصفة عفوية، فجاء جل شعره تعبيرا صادقا عن مشاعر الحب والحنين وتملى مظاهر الجمال في المرأة والأرض ومسارح الإبل ومضارب الخيام. فأكثر شعره إذن إما غزل مباشرة أو غير مباشرة[2]

بعد هذا يمكن أن نتطرق إلى بعض السمات الغالبة في الغزل عند الشاعر ولا ندعي أنها تميزه تميزا تاما عن الشعراء الجاهليين ولكنها تكثر عنده أكثر مما هي لديهم.

أول ظاهرة ستلفت الانتباه هي كثرة المزج بين الغزل والفخر.ذلك لأن الشاعر يتحرك في بيئة من أحياء عشيرته وأبناء عمومته وبناتها والأماكن التي كانت مرابع صباه ومراتع طفولته، لذلك فهو ممتلئ حبا وإعجابا بكل هذا المحيط المتشابك الملامح. فهو عنما يذكر حبيبة قلبه فإن الذكرى فإن الذكرى تجمح به إلى كل ما كان يتعلق بتلك العلاقة الحميمة، من تجشم الأهوال في سبيلها خاصة فيما يتعلق باعتساف مجاهل الصحراء، صحبة فتية من عشيرته يشتركون معه في الدافع العاطفي؛

يقول                                                                                   {الطويل}

فيا من رأى مثل اللواتي نزورها

ومثل الألى يأتونها زورا معي[3]

 

 

 

 وفي كل الخصال التي يراها مثله الأعلى:

                                                                                      {الخفيف}

بعد أنس وحاضر ذي طلال

لا تخطى لغيرهم رغباء

حين إذ شملنا جميع وصرف الد

هر سلم والعيش فيه رخاء

{...} في فتو شم المناخر صيد

واجد من يزورهم ما يشاء

حين سلمى بها ليالي سلمى

لم تدرع كأنها سيراء[4]

 

والمنحى الثاني الذي يعتبر تكميلا لهذه الظاهرة هو أن أكثر المتغزل بهن من بنات العم فأوصافهن الخلقية والخلقية تشيع عاطفة الاعتزاز لدر الشاعر فهي إذن أقرب إلى جانب الفخر منها إلى الغزل:

                                                                              {الخفيف}

ظعن عامرية قد تولت

يوم ولت حمولها بفؤادي [5]

 

ثم  تتضح صورة بين النسيب والفجر في مثل هذه الأبيات التي تتكرر ملامح مضمونها في شتي قصائد الديوان

                                                                          {خفيف}

يا لقومي تقتلت لي حتى

قتلتني ولم تبال خبالي

في حمول غدون منتجعات

ساحة الكرب بعد رعي الرمال

ظعن من ظباء أبناء موسى

وظباء الأعمام والأخوال

لينات معاطفا خفرات

كمها الرمل باهرات الجمال

طيبات مآزر حظيات

يالها من حمول حي حلال

حي يعقوب إنهم خير حي

إذ تسامى الكرام عند النضال [6]

 

وهذا ما يفسره كون أكثر النساء بهن زوجات الشاعر ن بنات عمه وبنات أخواله وهو ما يضفي على الغزل بعدا آخر هو البعد الروحي الأخلاقي المتشبع بالدين وهي ظاهرة سيتطرق إليها لاحقا.

وليس شاعرنا بدعا من الشعراء في النسيب ببنات العشيرة فهذه ظعائن عمرو بن كلثوم قبل ظعائن آل يعقوب وهي:

ظعائن من بني جشم بن بكر

خلطن بميسم حسبا ودينا [7]

 

غير أن الظاهرة لا تتجاوز الإيماءة عند الشعراء القدماء، بينما هي لازمة في كثير من قصائد ابن الطلبة.

ثم إن قضية تعداد الأمان في شعر الشاعر وإن كانت مألوفة في الشعر العربي القديم، تلح على قارئ الديوان وتأخذ بمجامع قلبه، لأنها أساس مادة الديوان، تمتزج بجميع أغراضه وتجعل من مادته الشعرية حبا ومكانا، وفخرا ومكانا ووصفا ومكانا ورثاء ومكانا إلى غير ذلك، حتى ليخيل إلى القارئ أن الشاعر قد قصد تخليد هذه الأماكن في شعره، وكان غايته القصوى هي حشد أكبر عدد من الأعلام المكانية في هذا الشعر، ولولا ما طفح به الديوان من صدق العاطفة وصفاء الشاعرية لقلنا إن شعر محمد بن الطلبة إنما هو متن من متون اللغة و"أطلس"جغرافي لمنطقة غربي بلاد شنقيط شماله وجنوبه.

لقد ذكر مقدم الديوان محمد بباه محمد ناصر في ص 51 من مقدمته الممتازة أن ابن الطلبة ذكر في ديوانه 196 موضع يتكرر ذكر بعضها مرات تقع كلها ضمن النطاق الذي  كان الشاعر يغشاه باستثناء15 موضعا في الجزيرة العربية شاع استخدام أغلبها لدى الشعراء الأقدمين..."

وإذا أضفنا إلى هذا العدد من المواضع ما ينشأ عن تكراره في مختلف القصائد ضمن مادة شعرية لا تتجاوز 1500بيت، هالنا ما للموضع من طغيان على هذه المادة.

سبق لي أن كتبت عنها في مقال نشر سنة 1983 في مجلة المعهد العالي للدراسات الإسلامية تحت عنوان "الشاعرية "[8] وقد تحدثت حينئذ، فيما تحدثت عنه، عن شاعرية تعداد أسماء المواضع في الشعر العربي والشعر الحساني أي في الشعر البدوي المسكون بحركية التنقل من مكان إلى مكان وافترضت أن سبب انفعالنا بهذا الشعر الذي يعدد فيه الشاعر سلا من أسماء الأمكنة لا نعرفها وربما تكون منكرة الأسماء بالنسبة إلينا فضلا عن أن تربطنا بها ذكريات من أي نوع كانت، إنما هو ناشئ عن ضدق انفعال الشاعر بهذه الأمكنة التي تثير في نفسه ذكريات عذبة وتجارب حميمة، مصداقا للقول المأثور "الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان" وقد مثلت وقتئذ لذلك بشاعرية قول سيدي عبد الله بن أحمد دام وتأثيرها في نفوسنا:

                                                                        {طويل}

وهل لي بجنبي تغريريت إلى الصفا

إلى الأجرع الغربي فالجرذان

إلى جنبتي ذي قسطل متنزه

فإني إليها دائم الهيمان[9]

 

فعندما يعبر الشاعر بصدق عن معاناته وشجونه أمام مواضع له بها ذكريات، وهو في ذلك صادر عن انفعال صادق، فإن هذا الانفعال ينتقل إلينا عن طريق العدوى فننفعل بانفعاله دون أن تكون لنا صلة مباشرة ببواعث ذالك الانفعال.

وهكذا بالنسبة إلى مسارح بن الطلبة، ورحلاته في الفضاء اللامتناهي لتيرس، وتازيازت، وأزفال،وآكشار، وتيجيرت، وما دون ذلك إلى ضفة نهر صنهاجة {نهر السنغال اليوم} فنحن نصاحبه، دون أن نجد إلى رد ذالك سبيلا في هذه التنقلات الطويلة، المشحونة بأرق الأحاسيس أصدق المشاعر.

ولنأخذ هذه الأبيات المجتزأة من إحدى قصائده، يقعد فيها لبرق يشيمه من تارقة ويتابعه بعينه وقلبه حتى يصل إلى أعماق تيرس:  

 

 

                                                                                 {كامل}

ولقد قعدت إلى الصباح لناعج

متخمط هزم الهجير مجلجل

صعب يمان بات يخبط مشئما

وهنا غياطل جوف ليل أليل

مازال يندهها فلما أن علا

"ترقى" إلى بطن "النشير"ف "أيمل

ألقى بوانيه بهن معرسا

ثم انتحى بجرانه والكلكل

يسقي "الذراع" ف"تيجريت"مدوما

من خبت "عيش"إلى مدافع "تنضل"

فـ"النصر" فـ"المرين" لايلوي على

سهل ولاحزن بودق أهول

وغدا بها يحو "الزفال" فـ"تيرس

يقضي من التسحاح مالم يفعل

وأحال ريقه على "تزيازة"

و"درار سطف" بالذنوب الأثجل

 

ومضى ينشنش جلد أحمال على

أجرازها ويعل لوح النهل

فاهتز هامدها به وربت ربا

وتبرجت من بعد طول تبذل[10]

 

فالقارئ المتذوق لمناحي الجمال في هذه القصيدة لا يملك إلا أن يؤخذ بهذه الرحلة الشعورية يتتبع فيها الشاعر، مع المطر الذي هو حياة وعطاء ونماء ،مغاني رتعت روحه فيها وبملى بها نعيم الحياة والشباب ووصال الأحباب، فنحن نعيش بكثافة هذا التنقل نتمنى أن لا تنتهي هذه الرحلة الممتعة المريحة لنفوس أخذ منها الجفاف كل مأخذ، ولنقف عند نهاية هذه الرحلة نتبين آثارها باهتزاز الكلأ وتفتق الأزهار.

ولشتان ما بين مطر ابن الطلبة ومطر امرئ القيس الذي قعد له هو أيضا وعدد المواضع التي مر بها حتى انتهى بذلك السيل المدمر الجارف:

                                                                                    {طويل}

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أطما إلا مشيدا بجندل[11]

 

فامرؤ القيس المتوتر، الموتور الناقم ، يسقط حالته النفسية على هذا المطر، بينما يرى فيه ابن الطلبة حياة جديدة وسعادة وسكينة روحية باقتباسه من الآية الكريمة {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}.[12]

إن هذه الغنائية الواضحة في العلاقة بالمكان، هي تعبير عن نفس العلاقة بساكني المكان أو الظاعنين عنه أو القاصدين إليه. فهي كلها أمكنة لا تنفصل عنهم، وبالتالي تجمع مطارح شاعرية ابن الطلبه في الديار ومن سكن الديار

والمواضع التي يتقلب الشاعر بينها تحيل إلى مواضع أخرى لم يعش فيها بجسمه ولكنه غني فيها بوجدانه مثل بعض الأماكن التي اشتهرت في التراث الشعري فصارت حبيبة إليه كما حبب هو إلينا المبيديع والذريع ودومس وأم هودج وقد يرتبط بعض هذه الأماكن بقصص غرامية تراثية كيوم دارة جلجل عند امرئ القيس:

                                                                               {كامل}

دمن قضيت من الصبا في عهدها

ماكان من يوم الغدير قطاط[13]

 

ومثل ذلك الإشارة إلى سلمى ومنعج اللذين خلدهما رقاع بن قيس بقوله:

                                                                         {كامل}

أحب بلاد الله مابين منعج

إلي وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وأول أرض مس جلدي ترابها [14]

 

فيقول محمد مشير إلى ذلك:

                                                                       {طويل }

ومنهم بأوشال "الثدي"منازل

وحي على أوشال هضب "الأفيرج"

منازل قد كان السرور محالفي

بها هي عندي بين "سلمى" ومنعج"[15]

 

 وهكذا الأمر بالنسبة إلى "حزوى"و"الملا" وجلاجل"التي تغنى بها ذو الرمة[16]فيقول شاعرنا وهو يستمطر الغمام على معاهد صباه:

                                                                     {طويل}

فذاك سقاها فالعشيرة فالصوى

بحيث تناهي ذي المحارة وابله

منازل لو غيلان مية شاهد

بها إذ صبانا لاتغول غوائله

لما استحلبت عينيه يوما محلة

بحزوى ولا جو الملا وجلاجله[17]

 

إن المكان وما التبس به من دواعي النسيب وما كان به من متع الحياة ولين العيش ومواتاة الأحبة، يكتسي بعدا روحيا فرضته طبيعة الشاعر وتكوينه النفسي والثقافي. ويمكننا أن نستشف هذا البعد من خلال هذه الأبيات التي أعتبرها من أصفى ما جادت به قريحة ابن الطلبة وأصدقه وأكثره تعبيرا عن شخصيته وعن إخلاصه للمكان واستحضاره للقيم الروحية :

                                                                                      

                                                                               { طويل}

وإن تسأل الأطلال يوما شهادة

بما كان فيها من مصيف ومربع

تخبر مرابيع المبيدع شربنا

بكأس التصابي من رحيق مشعشع

وتنبي رضام الكرب عنا بمثله

وما ثم من سهب دميث وأجرع

وتشهد أيام الصبا عند ربها

بأن ليس فيها مثل عصر الذريع [18]

    

فطلت الشهادة من المكان مألوف في الشعر العربي القديم. خاصة في الشعر الغنائي والغزلي بوجه أخص مثل قول جميل بن معمر:

                                                                {طويل} 

فمن كان في حبي بثينة يمتري

فبرقاء ذي ضال علي شهيد[19]

 

ولكن صاحبنا أعطاها أبعادا أخرى تتعدد فيها أسماء الأماكن بتعدد ذكريات تملي جمال الحياة وريعان الصبا، ويؤخذ فيها بالجانب الروحي بأن تقوم "أيام الصبا عند ربها" شهيدا على أن عصر الذريع كان أروع ما فيها وأحلاه.

وهنا يمتزج الشعوري بالروحي في انسجام بديع يجد حضوره بارزا في شعر ابن الطلبة ونظرته النقدية إلى هذا الشعر، فقصائده التي جاءت على منوال قصائد الأعشى وحميد بن ثور والشماخ، رأى أنها تتفوق على قصائد هؤلاء الشعراء وتمنى أن يجتمع بهم في ناد من نقاد"عكاظ" أهل الجنة ليحكم بينه وبينهم.

وإذا تحدثنا عن المرأة في شعر محمد بن الطلبة فإن أكثر ملامحها تتحكم فيها الاعتبارات التي أشرنا إليها، وهي أنها زوجة وقريبه في النسب فكان ذلك ذا تأثير واضح في وصفها والحديث عن العلاقة معها. فالصفات الخلقية تخضع لمقاييس الجمال المألوفة في الشعر البدوي من بياض ونعومة وامتلاء جسم مع كشح هضيم وجمال مبسم وسحر في العيون، والمقارنة بما هو معروف من مستجمل الوحش ومستعذب التشابيه من أمثال هذه الأبيات:

                                                                                   {طويل }

عشية أصمتني ولم تدر بغتة

فرحت وما أدري الذهاب من المجي

بعيني مهاة مخرف بمخيلة

أو ادماء من وحش العشيرة عوهج

وكشح لطيف كالجدائل طيه

كلمس الدمقس ذات خلق معذلج

وتشجي رحيبات الدمالج والبرى

بما شئت من غيل رواء مدملج[20]

                       

 

هذه هي السمات الجسمية العام. وقارئ الديوان لايد من اهتمام الشاعر بها أكثر من تأدية مناسك لسنة الشعر القديم، فجل حديثه الحقيقي عن المرأة إنما هو من خلال حبه إياها وشوقه إليها، وتعداد الأماكن التي حلت بها أو رحلت عنها، وترصد ظعائنها واتباعها على جمله أو ناقته التي نستطرد ويفيض في وصفها مما ينسيه المرأة التي ربما كانت غرضه الأصلي، فغرامه بالمرأة هو غرامه بالصحراء وسفينتها فيتحد الجميع في شرارة واحدة تؤجج عاطفة الشاعر تحفز خياله. فنرى جمل أم المؤمنين "الأخيضر" يبعث فيه ذكريات أم المؤمنين وكأنه جزء من المشهد العاطفي:

                                                                      {بسيط}

عند الأخيضر ما يشفيك لو نطقا

فحيه حيه من أجل ما سبقا[21]

 

 

أما الصفات الخلقية فهي كل ما أملته القيم الدينية، والمكانة الاجتماعية من عفة وطهارة وحياء، إلى جانب ما توضع فيه على وصف المرأة في علاقتها بعاشقها من استمتاع بتعذيبه وخلف للوعد ومطال وكذب:

                                                                                        {خفيف}

لا لهوى غيرها ولا هي تهوى

عير شيء به تطيل عذابي

لا ولا خلب سور ومض برق

سلبتني بقوله الكذاب[22]

 

وهي تفعل بالمحب أفاعيلها ببراءة تامة، وعدم تعرض مقصود ولا تصيد مبيت:

                                                                                   {طويل}

عشية أصمتي ولم تدر بغتة

فرحت وما أدري الذهاب من المجي[23]

 

وفي قوله:

دار لميمون الي فعلت به

فعلاتها ومضت كأن لم تفعل[24]

 

وبما تغزل بهن غالبا ما يكن من طينة الشاعر أو يربطهن به رباط  مقدس فهن ذاوت أذواق أدبية يحببن اللهو البريء والشعر الجميل:

                                                                  

                                                                                        {طويل}

ويؤنسهن اللهو والشعر والصبا

وينفرن من ريب المريب جوافلا[25]

 

وهو ليس الطالب دائما بل قد يكون مطلوبا منهن على غرار عمر بن أبي ربيعة :[26]

                                                                           {خفيف}

وهي مما تقول للاء معها

عن حديثي تستخبر استخبارا

ماله قد منحته الود مني

لم يزرني فليته اليوم زارا

ليته زارنا لنقضي بعض الــــ

ـلهو يوما وننشد الأشعارا[27]

 

وباختصار فإن تشريح شعر محمد بن الطلبة وتجزئته إلى أغراض متمايزة قد يسيء إلى شعره لأن هناك تماهيا تاما بين الشعر والشاعر. فإذا أردت أن تضع كل غرض في زاوية  خاصة به وتدرسه منفردا،فكأنك تقطع أوصال الشاعر نفسه. فشعره إفضاء بمكنون ذات لها جوانب مختلفة،  تتأرجح بين الفنان والعالم والوجيه المكين، وتكتمل في العاشق للمرأة والحياة والأرض وبني يعقوب.

 


 

[1]  نحن نوسع مجال النسيب والغزل إلى كل ما يلحق بهما من ذكر للمواضع وحديث عن الرحلة أو وصف للظعائن لأن كل ذلك من تداعيات الموضوع

[2]  باستثناء الرثاء والإرشاد وبعض أشعار المجاملات فإن أكثر شعر الشاعر جاءت من وحي مشاعر الحب والحنين

[3]  محمد بن الطلبة، ديوانه ، تحقيق وشرح محمد عبد الله بن الشبيه بن ابوه، مراجعة محمد سالم بن محمد عالي بن عبد الودود، تقديم محمد بباه بن محمد ناصر، نشر أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه – مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،2000، النص 40- البيت: 28

[4]  الديوان، النص،1 الابيات10،11،13،14.

[5] الديوان النص 26، البيت 2

[6]   الديوان، النص60، الأبيات 16-21

[7]  عمرو بن كلثوم، في مختار الشعر الجاهلي ، تحقيق مصطفى السقا، دار الفكر، بيروت، لبنان، 2007، ص.269

[8]  مجلة الشعاع ، العدد 3، 1983.

[9]  أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1989، ص290.

[10] الديوان، النص 61، الأبنات 22-23،26،29،32،39،41.

[11]  امرئ القيس في مختار الشعر الجاهلي، تحقيق مصطفى السقا، دار الفكر، بيروت، لبنان، 2007، ص

[12]   الحج، الآية 5

[13]  الديوان ، النص 37، البيت 4.

[14] يراجع الديوان ، ص.154 هامش36.

[15]  الديوان النص 17، البيتان 35و36.

[16]   انظر شرح الديوان،ص416.

[17] الديوان ، النص 68، الأبيات 13.15

[18]   الديوان ، النص، 40، الأبيات 12-15.

[19]  جميل بن معمر المشهور بجميل بثنة من قصيدتة التي مطلعها:

                                    ألاليت أيام الصفاء جديد     ودهر تولى يا بثين يعود

[20]   الديوان ،النص 18، الأبيات 19و22.

[21] الديوان، النص 47، البيت 1.

[22]   الديوان ، النص 11، البيتان 5 و 6

[23]   الديوان ، النص 18، البيت 19.

[24]   الديون ، النص 61، البيت3.

[25]  الديوان، النص 55، البيت 8

[26]   يقول عمر ان أبي ربيعة في قصيدته التي أولها

هيج الهم مغان وصير    دارسات قد علاهن الشجر

{...}إذ خلونا فتمنين بنا      إذ خلونا اليوم نبدي مانسر

فلن يسترضينها أمنية      لو أتانا اليوم في سر عمر

بينما يذكرنني أبصرنني   دون فيد الرمح يعدو بي الأغر

قلن : تعرفن الفتى؟ فلن نعم     قد عرفناه وهل يخفى القمر؟

ويرد في بعض النسخ مكان البيت الأخير :

قالت الكبرى أتعرفن الفتى؟    قالت الوسطى: نعم؛ هذا عمر

قالت الصغرى وقد تيمتها:      قد عرفناه . وهل يخفى القمر؟

ديوان عمر بن أبي ربيعة، شرح عبد الأمير علي مهنأ، دار الكتب العلمية، بيروت، ص168

[27] الديوان النص 30 الأبيات 7،9.

 

القائمة

من أدب ابن الطلبة الحساني المزيد

من غزل ابن الطلبة  المزيد

محمد بن الطلبة المولد والنشأة  المزيد

المعجم الشنقيطي العربي المزيد

شعر محمد بن الطلبة المزيد

محمد بن الطلبة المولد والنشأة  المزيد

التعاون المغاربي يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع مؤسسات المغرب العربي بما في ذلك الموروث الثقافي البربري العربي 

المعجم الشنقيطي العربي المزيد

التعاون العربي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات العربية المحلية والدولية   المزيد

التعاون الإفريقي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات الإفريقية النشطة في المجال  المزيد

التعاون الدولي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع الهيئات الدولية المزيد

التعاون المغاربي يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع مؤسسات المغرب العربي بما في ذلك الموروث الثقافي البربري العربي 

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث  مركز محمد بن المزيد

التعاون العربي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات العربية المحلية والدولية   المزيد

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث  مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث مركز محمد بن المزيد

التعاون الإفريقي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات الإفريقية النشطة في المجال  المزيد

التعاون الدولي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع الهيئات الدولية المزيد

 
top Back to top