ISET

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث : مجال اهتمامات المركز ومشاغله البحثية يتجاوز الأشخاص والجهات، مركزا على شتى ألوان الثقافة العربية الإنسانية التي أنتجتها هذه البلاد وما جاورها؛ دون أن نغفل الثقافة الإنسانية العربية والعالمية منها عموما
 اتصل بنا من نحن بحوث مرويات النشاطات الرئيسة

بقلم محمد المختار بن سيدينا:

مدرس باحث؛ جامعة  نواكشوط

الصورة الشعرية في ديوان محمد ابن الطلبه

 

مدخل تبدو الصور الشعرية لأول نظرة مجرد آلة فنية يستخدمها الشاعر لتوضيح فكرته أو التمكن من نقل أحاسيسه إلى القارئ بواسطة الخيال[1] لكنها بالتمحيص تتكشف فعالية تهدم الجسر الممدود في ما بين الأشياء، فتوحد بينها في شكل فريد؛ أي أنها الأداة التي تسمح بالوحدة مع العالم، فتتيح امتلاكه؛ أو الوسيلة التي تسمح بالوحدة مع الأشياء، فتتيح النفاذ إلى حقيقتها[2] وهي اليوم في أرقى تجلياتها عبارة عن رؤيا لا يقبض عليها إلا من خلال القصيدة كلها[3].

بهذه الدلالة، لم تكن الصورة الشعرية معروفة في الدراسات العربية القديمة، وإن تناولوا بعض من مشمولاتها تحت عناوين جزئية مثل التشبيه، والاستعارة والكناية على نحو ما نجد لدى النقاد البلاغيين القدمى كابن المعتز وابن قتيبة وأبي هلال العسكري وقدامة بن جعفر[4] لقد تعرض الجاحظ في تناوله لبعض سمات الاستطراد في القصيدة البدوية، وعبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني، بشكل أوضح في درسهما النص الشعري، لما يمكن أن يطلق عليه ـ ربما تجوز ـ بذور رؤية شمولية تتسقط مظاهر الصورة الشعرية الشاملة، الممتدة، التي تنظم أجزاء النص كله وتقدم رؤية الشاعر العميقة ومواقفه التي تتجاوز الآتي الظرفي والجزئي المبتور لم تظهر إلا في العصور الحديثة مع نضج الدراسات الأدبية،خاصة في الآداب الغربية، بعدما تجاوز النقد البيت وحدة شعرية إلى القصيدة وحدة فنية شعورية[5]

من هذا الوضع المنهجي المتذبذب، واجهتنا ونحن نسعى إلى تناول الصورة الشعرية في مجموعة من قصائد ابن الطلبه إشكالية مركزية تطرح نفسها على المهتمين بالدراسات التراثية عموما والنقدية على وجه الخصوص.

كيف نتعامل مع الصورة الشعرية لدى هذا الشاعر الذي أكثر من محاورة التراث الشعري القديم، دون ان تغيب صلته بالوقع الاجتماعي والثقافي؟ هل نستعير أدوات النقد القديم كما عرفت عند الآمدي وأبي هلال العسكري وأضرابهما، وكما تبلورت عند المرزوقي في "عمود الشعر"[6]، فنبحث عبر عدة البيان الجزئية والتجزيئية عن "الصورة" في البيت الشعري ـ باعتبار وحدة مستقلة؟ أم نقتبس من المناهج[7]؟ النقدية الحديثة ـ ولو جزئيا ـ رؤيتها الشمولية التي ترى أن الصورة الشعرية تتنزل في النص بكامله وتتكشف من خلال ما وراء "الصورة ـ الأجزاء"، أي أنها تتعالى على كل ما هو جزئي

بل، هل باستطاعتنا، مهما توخينا الموضوعية في دراسة موضوع نقدي كالصورة الشعرية، أن نركن إلى التراث النقدي بشكل صرف؟ أم أننا مضطرون إلى عدم إغفال المفاهيم المعاصرة باعبارها جزءا من "واقعنا" لا نملك منه فكاكا؟ وبالمقابل، هل بالإمكان الاستعارة من الجهاز المفهومي النقدي المعاصر دون الاعتماد على سند لتلك الاستعارة في التراث النقدي العربي؟ هذه التساؤلات لا تعدم في لازم دلالتا بعض الإجابات لا يسمح المقام بالتعرض لها بشكل مفصل. إنما نكتفي بالإشارة إليها، ونقول . بشكل إجرائي. إنه ربما كان الأنسب اتخاذ رؤية دناميكية تقبل المزاوجة بشكل يقظ بين التراث النقدي وبين المقاربات المعاصرة. ذلك أن كل عودة إلى تراث نق\ الشعر ـ كما هو الحال بالنسبة للتراث عموما ـ عودة متحيزة بالضرورة لأننا لا نستطيع  أن نفهم القدماء فهما محايدا تماما ، إنما نفهمهم في ضوء ما يؤرقنا من إشكاليات بعضها بالضرورة معاصر. والمهم أن تتسم القراءة بأكبر قدر ممكن من الموضوعية باعتباره شرطا لازما لإدراك المنطق الداخلي للنصوص[8] سواء أخذنا أدوات قديمة ك"الصورة الجزئية" من تشبيه واستعارة وغيرهما؛ أو "نظرنا" إلى بعض المفاهيم الحديثة ك"الصورة البنائية" الممتدة التي نجد ـ كما ذكرنا ـ لدى بعض القدامى (الجاحظ، ابن قتيبة ...) ما يشير إليها.

تأسيسا على ما سبق سنتناول في هذه العجالة الصورة الشعرية عند محمد بن الطلبة من حيث الروافد التي منها تستقى، والأشكال الفنية الكبرى التي عليها تقوم، ثم نتوقف عند بعض سمات الكفاءة والإنجاز فيها على ضوء السياق التاريخي والثقافي الذي يؤطر إنتاج الشاعر.

1 مصادر الصورة الشعرية عند ابن الطلبه

اهتم كبار الشعراو القدامى باستقصاء القول في الوصف واستغراق التشبيه واستيفاء الصورة البيانية استيفاء يتناول دقائقها وتفاصيلها. وكانت صورهم وتشبيهاتهم مستمدة من الواقع، من طبيعة الحياة[9].

وتكشف مجموعة قصائد ابن الطلبة المتناولة أنه سار على نفس الهدى، وإن أضاف إلى مصادر صوره الرافد الثقافي، بحكم خصوصية بيئته البدوية "العالمة" وهكذا نجد ثلاثة روافد رئيسية منها استقى الشاعر صوره الشعرية، وربما تجربته الإبداعية عموما: الرافد الثقافي، وروافد البيئة الاجتماعية، والبيئة الطبيعية.

1.1   الرافد الثقافي:

يذكر الدارسون أن ابن الطلبه تربى في بيئة تيرس، وهي قوية الشبه بالبيئة الصحراوية العربية القديمة، في بيت جمع إلى العلم والقضاء واسع الثراء[10] وفي ذلك المحيط الذي تنزع فيه نخبة الزوايا إلى إبراز رسوخها في الثقافة العربية تحصيلا وإنتاجا، وتنافس فيه الدراسات اللغوية والأدبية المتون العقدية والفقهية[11](وإن وقع اتفاق على أهمية الرافد الأدبي ـ والشعري بالذات ـ في العصور الأولى التي لا يحتج بغيرها)، حصل على قسط غير يسير من العلوم المحظرية، بمعارفها وفنونها المتنوعة التي طبعت إنتاجه الشعري والنثري كليهما.

وقد ترجمت الصورة الشعرية على نطاق واسع، هذا الرافد على نحو ما نجد في الأمثلة التالية:

المثال 1، حول التعلق اليائس بالشباب. يقول:

                                                                                  (كامل)

فاليوم إذ وسم المشيب شبيبتي

من وسمه المشؤوم غير علاط

فسرى يخيط لمتي لما سرا

برد الصبا عني بغير خياط

ورمى بأسهمه الصوائب شرة

ومن السهام صوائب وخواطي

أصبحت ودعت الصبا لا عن قلى

والدهر بالعلق المفجع ساط[12]

الصور هنا وإن انطلقت من ثابت إنساني يتمثل في صراع الإنسان مع الزمن، فإنها تتكئ على الموروث الثقافي الشعري الذي طالما شكا فيه الشاعر الزمن الغادر الذي يخط فوديه ـ أو يخيطهما ـ بخيوط المشيب المشنوءة. ويأتي الوسم وهو أثر الكي، والعلاط (صفة في عرض عنق البعير)، والأسهم الصوائب والخواطئ لتؤكد هذا الطابع التراثي البدوي رغم عدم مجانبة البيئة لها.

المثال 2 عن النساء المصونات، يقول:

وببيض من الظعائن عين

عونها والكواعب الأتراب

قاصرات للطرف يبرزن في الريـــــ

ـــط خدال ثواقب الأحساب[13]

وهي صور لنساء حيه اللائي كانت بهن تعمر هضبة الخيل، ثم منهن أقفرت. ولم يبق للشاعر من وصلهن غير الذكرى، والصور العذبة التي يعز الوصول إليها؛ مما يشي به التلويح بصفات نساء الجنة   "الكواعب الأتراب" قاصرات الطرف". المثال 3 حول الليل وما به من هم مسهد:

تطاول النازح المتهيج

أما لضياء الصبح من متبلج

ولا لظلام الليل من متزحزح

وليس لنجم من ذهاب ولا مجي

فيا من لليل لا يزول كأنما

تشد هواديه إلى هضبتي إج[14]

 هنا يظهر الليل المرقشي، بل ليل العديد من الشعراء القدامى الذين سهدهم الهم فأصبحوا يشكون طوله عبر كنايات وتشابيه تستند إلى بطء أو توقف حركة النجوم وربط "هواديه" إلى جانب الراسيات. ألم يقل امرؤ القيس شاكيا، مستبطئا حلول النهار:

فيالك من ليل كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدت بيذبل؟

 أولم يقل النابغة الذبياني كذلك متبرما، ضجرا، مما يعانيه من مقاساة الهم ومعاناة طول الليل:

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب؟

غير أن ذلك الارتباط الوثيق بالتراث الشعري والديني، وإن سيطر سيطرة بارزة في الإنتاج فإنه لم يستطع تغييب معطيات البيئة الاجتماعية والمحيط الطبيعي. 

1 .2. البيئة الاجتماعية:

تحضر في بعض قصائد الديوان الصورة المستندة إلى الواقع الاجتماعي وما يمور فيه من صراع وما يتطارح فيه الناس من قضايا. ففي اللامية الي مطلعها:

أهاجك رسم بالغشيواء ماثل

كما لاح جفن السيف والسيف ثامل[15]

نجد (الأبيات 27 . 43) صورا تتنزل في صميم ما يحتدم يومئذ من صراع اجتماعي بين الثلة المصلحة من جهة وبين من يؤثرون المصالح الشخصية العاجلة من جهة أخرى. وقد تنوعت الصور الجزئية سعيا إلى الإقناع. فهناك التشخيص عبر كنايات حميمة الصلة بالواقع تترجم التعلق بالدنيا (البكاء إن ضل البعير أو ظمئت النوق أو تدافع البقر عند ورود الماء) مقابل عدم الاكتراث بالدين وإقامة عموده (من طهارة وغيرها). وهناك دعوة إلى (الفعل)، أسفرت عنها الصور حينا (الأبيات 34. 40)، ولوحت بها أخرى، كما في تشبيه الطلل والاستعارة المكنية المتصلة بالسيف في المطلع السابق.

ويذكر، في سياق لقطة ورائية تترجم فتوته، وتنبئ عما في تيرس من رغد عيش ترفل فيه نساؤها المنعمات

ظعائن لم تألف عصيدا ولم تبت

سواهر ليل الجرجس المتهزج

ولكن غذاها رسل عوذ بهازر

مورثة من كل كوماء ضمعج[16]

وإذا كان البيت الثاني يقدم بصدق واقع بيئة الشاعر المباشرة (تيرس) فإن الأول يحمل تلويحا بما في بعض البيئات الشنقيط الأخرى من غذاء ومن بعوض ينغض صفاء العيش (صورتا الصعيد والجرجس).

3.1 البيئة الطبيعية

يستعين الشعراء اعتمادا على البيئة الطبيعية، باعتبارها مجلى البيان والإبلاغ بغية "التأثير في سامعيهم، بطائفة من المحسنات اللفظية والمعنوية، أكثرها دورانا في أشعارهم التشبيه؛ فلم يصفوا شيئا إلا وقرنوه بما يشبهه ويماثله ومن واقعهم الحسي[17]" وقد يتجاوزون التشبيه إلى الاستعارة هادمين الحواجز بين المشبه وبين المشبه به، أو ينتقلون إلى ضروب المجاز الأخرى، مستغلين في ذلك معطيات البيئة الثقافية حينا والبيئة الطبيعية أحيانا أخرى.

وابن الطلبه، انسجاما مع ذلك، ارتبطت لديه الصورة الشعرية ـ بمختلف أوجهها ـ ارتباطا حميما بالمحيط الطبيعي الذي فيه عاش، خاصة منطقة تيرس التي لا تكاد تجد موضعا منها إلا له ذكر في شعره[18]  وهو معروف بغيرته على موطنه وتمسكه بساكنيه وما يحيط بهم من أرض وحيوانات ونبات. وإذا كان قد آثر الإتباع في السنن اللغوية والأدبية إيمانا منه بأن الشاعر اللوذعي معرض. في هذا الشأن . أن لأن " يضل" إن لم يتبع[19] فإنه في مجال البيئة الطبيعية ظل متمسكا بمحيطه مفضلا له على غيره من البيئات حتى تلك التي اكتسبت "قدسية" بسبب ارتباطها بالتراث الأدبي والوعي الجمعي الشنقيطي الحان إلى "جذوره" المشرقية. من ذلك الارتباط الشديد بالبيئة على مستوى الصورة قوله يصف الظعائن ومراكب النساء موظفا الأرض والبحر والشجر والحيوان والإنسان:

دلحن بأبكار وعون كأنها

عقائل عين من مطافل تجرج

كأنهم إذ ضحضح الآل دونهم 

خلايا سفين مثقل متعمج

صودر من ميناء جور تحثها

نوبيها في زاخر متموج

أو العم من نجل ابن بوص تمايلت

شماريخها من مرطب ومنضج

مجانين رقل من كناوال ناوحت

فروع الثريا لا تنال بمعرج[20]

فالنساء أبكارا وعونا يشبهن بظباء تيجراج[21] وهي بلال تجمع بين صخور سوداء ورمال بيضاء تقع جنوب غربي ابنعميره، وهي تشتهر بكثرة الظباء وحسنها وشدة نفورها. و"الحدوج" تتراءى وقت السراب كالسفن المثقلة التي تخرج من مرفإ اجريده (جور) الواقع شمال غرب نواكشوط الذي كانت تعمره السفن الأوروبية يومئذ. كما تشبه "الحدوج" أيضا بالنخل الطويل في حي كانوال بأطار. ولتوضيح المشبه به أكثر، ونقله من العموم إلى الخصوص، من النكرة إلى المعرفة، نحدد ذلك النخل، عبر ذكر صاحبه (ابن بوص من قبيلة تيزكه)، وإركام الأوصاف المتعلقة به وبمنتوج شماريخه[22]

2. أشكال الصورة الشعرية عند ابن الطلبه

وفق المنهج التكاملي الذي اعتمدناه في هذه المداخلة يمكن التمييز في إنتاج ابن الطلبة تبعا لمدى امتداد الصورة وعمقها بين شكلين من الصور الشعرية: الصورة الجزئية والصورة الكلية.

1.2   الصورة الجزئية:                                 

بها نعني ذلك التشكيل اللغوي الجزئي الذي يتخذ من طاقات الخيال غير الجامح، ومن أدوات البلاغة، وسائل للبيان والتبيين في المقام الأول، والوجيه استجابة المتلقي في مقام ثان. وهو مسعى اكلاسيكي[23] معروف لدى أصحاب هذا المنحى في الشرق والغرب. وقد عبر عنه الناقد الفرنسي أبوالو في القرن السابع عشر بقوله المشهور في مطولته الفن الشعري: "ما يدركه الذهن بشكل جيد يتم عرضه بوضوح وتتوارد الكلمات بيسر للتعبير عنه".

ولا تغيب عن ذلك كنايات مثل "البكاء إن ضل البعير أو ظمت النوق أو تدافع البقر عند ورود الماء "للتعلق بالدنيا، مما أشرنا إليه قبل، ولا مجاز مثل قوله يمدح بعد الله العتيق بن البخاري، مشيرا إلى عشيرته بني نعقوب بميسمهم ـ وهو اللام والألف (لا) ـ المعروف شعبيا ب "الماليف":

إن "الأماليف" إن تفقد مساعيه 

تفقد مساعي فتى في الخير مقصود[24]

كما لا تغيب عنه الصور البيانية الأخرى ،خاصة التشبيه والاستعارة ؛ لأنهما "جميعا ـ كما ينقل صاحب العمدة عن الرماني ـ يخرجان الأغمض إلى الأوضح، ويقربان البعيد"[25] .

يقول في الشباب والمشيب، مستعيرا ثنائيات النسر والغراب، والزلال والرنق، ومناخ اليمن ومناخ السوء

فأن يك نسر الشيب يوما عدا على

غربين هام من لداتي وقع

وأضحى زلال اللهو رنقا وأصبحت

قلاص التصابي قد أنيخت بجعجع

الصورة المهيمنة

يهيمن التشبيه، والتشبيه الحسي على وجه الخصوص، في الصور الجزئية عند الشاعر، بشكل لافت للانتباه. وهو ذلك الذي يكون طرفاه مما يدرك بالحواس. ومعلوم أن التشبيه بنظر البلاغة التقليدية ليس محسن كلمة أي مجازا، وإنما هو محسن فكرة. وبعبارة معاصرة فإن التشبيه يتميز عن الاستعارة مثلا بكونه غير منحرف عن السنن المعجمي؛ أن أن الكلمة لا تدل فيه على شيء آخر مختلف عن ما تدل عليه في العادة، في حين أن الكلمة في الاستعارة تمتلئ بدلالة جديدة[26]ومن ثم فإن الاستعارة لا يمكن بهذا المعنى أن تعتبر مجرد تشبيه حذف أحد طرفيه، كما ذكر بعض البلاغيين العرب من أمثال السكاكي والقزويني.

وفي دراسة " أسلوب ابن الطلبه اليعقوبي" صنف د.أحمد ولد الحسن التشبيهات لحسية لدى الشاعر على النحو التالي:

المشبه / المشبه به

الإنسان

الحيوان

الجماد

الإنسان

+

+

+

الحيوان

+

+

+

الجماد

0

+

+

  ومن الجدول يظهر أن ابن الطلبه قد عقد تشبيهات بين كل اثنين من هذه الأطراف الثلاثية، إلا أنه لم يشبه الجماد بالإنسان[27]وثو ما نراه منسجما مع اختيار التشبيه الحسي، الواضح، القابل للتفكيك المنطقي الذي درج عليه الشعر القديم ونوه به نقاده كابن قتيبة وأبي هلال العسكري وقدامة بن جعفر وابن رشيق[28].

وينتشر في مطولات ابن الطلبة التشبيه التمثيلي وهو الذي يكون فيه وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد. وفي ما يلي إشارة إلى أمثلة منه في اللامية التي مطلعها

صاح قف واستلح على صحن جال

سبخة النيش هل ترى من جمال

 ـ ثغر المحبوبة ــ كالأقحوان بنته الطل فأضحى وجف منه الأعالي

ـ المحبوبة ألبست جمالا  ــ كأن عليها نضرة الشمس فوق نضر زلال

ـ كرم عشير الشاعر  ــ كالجياد تعفو إذا ما نفق الراكضات عند الكلال

ـ الظعائن    ــ كأنها (....) باسقات النصيل من كانوال، مائرات...

ـ النعاس ـــ فكأن الكرى سقاهم عقاراء شمول تدب في الأوصال ...

أغراض الصورة

وللصورة الجزئية عند ابن الطلبة أغراض متعددة. فهي تسعى في أغلب الأحيان إلى تقديم المشهد المراد نقله بجزئيات مرتبة ترتيبا زمانيا ومكانيا دقيق، خاصة في الحلة ، على نحو ما في استطرادات الجيمية الكبرى. ويذكر بعض دارسي الشعر البدوي القديم أن "الشمول في الوصف، والتدقيق في الصورة، والعناية بالجزئيات والتفاصيل، كل ذلك دليل عناية الشاعر؛ لتأتي الصورة كاملة معبرة وافية، فيها تحبير وتحقيق وتدقيق. وهذه أبرز صفات الصورة عند فحول الشعراء ومجيديهم[29]

وقد يجند الصر الجزئية، في لمسات متتالية، لنقل صورة أكبر نعز القبض عليها، كما في وصهث المحبوبة وما أصابته به من وله

...عشية أصمتني ولم تدر بغتة

فرحت وما أدري الذهاب من المجي

بعيني مهاة مخرف بخميلة

أو أدماء من وحش العشيرة عوهج

وكشح لطيف كالجدائل طيه

كلمس الدمقس ذات خلق معذلج

وتشجي رحيبات الدمالج والبرى

بما شئت من غيل رواء مدملج

فلو عرضت يوما لرهب بيعة

حليم على عاداته متحرج

إذا لأهل ساجدا ولخاله

رشادا متى يخذل نخن وينشج

وقد تنكفئ اللغة على ذاتها تصيدا للجمال الفني، أو تتواتر الاستعارات ويتكرر التشبيه، في توقيعات تترجم الانبهار، وإن بمبالغة، كما في قوله يتغزل:

أيا برقا تبسم عن أقاحي

ويا غصنا يميل مع الرياح

جبينك، والمقبل، والثنايا

صباح في صباح في صباح

وربما جعل الصور ضربا من البرهان الوجداني، كما في التشبيه الضمني الذي يشيد فيه بالشيخ محمد بن سيد محمد اشريف أحد خريجي مدرسة لمجيدري ولد حب الله:

حجبت عنك أعين وهي رمد

والسنا لا يراه إلى البصير

أو يسعى إلى نقل أحاسيس عاطفية أسرته من مثل صدمته لما واجه رسم "الرباب" اليباب:

ظلت فيه بالترب أعبث شجوا

لعب السافيا به والهوى بي

لو تراني لقلت يطلب أم الــ

ــمومنين الغداة تحت التراب 

كما تظهر عاطفة الغشب والاشمئزاز والسخط في صور المقطع الثانيمن القصيدة رقم 59(الأبيات 10.7). فالتشبيه الأول (...كمنفوس حبلى غرقته القوابل) يحمل عادة م عادات الوأد الجاهلية المجافية للعقل السليم (فتل الضعيف البريء الذي كان يفترض أن يجدد الجنس البشري)، والاستعارة المكنية في البيت الثاني (فطمسوا هداه )محملة بإدانة من يتألبون ضد النور والحق. أما الاستعارة التي بها ختم هذا المقطع (... لحيت تلك اللحى والحواصل) فمشربة تسفيها لأحلام من كان يفترض فيهم إقامة عمود الدين والدفاع عن محارمه. فهو يصمهم بالارتزاق، من خلال الاستعارة المكنية ("حواصل" الطيور). ومما يزيد الصورة تنفيرا مجاورة"اللحى" _ وهي سمة وقار ومظنة حكمة ـ مع "الحواصل" التي تكاد تزيل المسافة بين الإنسان والعجماوات.

والشاعر في هذه المقاصد المختلفة سائر على نهج القدامى من أصحاب الطبع. فقد كانت العرب تقول الشعر ـ كما أورد ابن سينا ـ لوجهين، أحدهما ليؤثر في النفس أمرا من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال، والثاني للعجب فقط، فكانت تشبيه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه[30].

2.2.الصورة الكلية:

تنتظم الصورة الكلية النص عموما، بوصفها، عند الشعراء المبدعين تحمل رؤية أو رؤيا إنسانية شاملة ترتبط بجوهر الإنسان، وتنقل موقفا موحد ومنسجما من القضايا المصيرية. والصورة الكلية ـ أو الممتدةـ مرتبطة بواقع نشأتها من حيث أنها تتجاوزه وتتخطاه إلى واقع إنساني أعمق وأشمل[31] .

وهذا ما لا يعزب، فيما نرى، عن قصائد ابن الطلبه، "نابغة شنقيط" ـ والتعبير لصاحب الوسيط[32]ـ خاصة في قصائده الطوال، المتعددة المقاطع.

ونكتفي للتمثيل على ذلك بإنارات مقتضبة حول اللامية السابقة، وتوقف أطول عند الجيمية المشهورة. وفي سبيل ذلك، لن نقدم مفاتيح جاهزة فنفترض ـ مثلا ـ أن "الطلل يرمز إلى اليأس الوجودي، والمرأة ترمز إلى الأمل، ورحلة الصحراء ترمز إلى العمل أو تحقيق الأمل، والناقة ترمز إلى القوة، وقصة الصراع الحيواني رمز الصراع الإنساني من أجل تحقيق آماله "كما قل بعض الدارسين[33]، في ما يشبه المنطق الرياضي الصارم الذي قد تعاصيه طبيعة الأدب المرنة، وإنما سنعمد إلى محاولة تقسيم النص بغية استنطاق محاوره من خلال الصورة اللغوية الدالة.

ـ ففي اللامية ذات الخمسين وخمسة أبيات والتي مطلعها:

أهاجك رسم بالغشواء ماثل

كما لاح جفن السيف والسيف ثامل[34]

نجد 11وجد غرضية تطبع حركة النص:

. الرسم والمغنى (1. 4)

. الإعراض عن تذكار أيام الشباب (5)؛

. بيان مصيبة دين الله (6 . 11)؛

. الحث على "الفعل" (12 .17)؛

. بسفيه أحلام من عطلوا الطهارة وتهاونوا بالصلاة في الجماعة (23.18)؛

. تركهم تكاليف الرجال (26.24)؛

. افتتان القوم بالدنيا (28.27)؛

. الحث على التعلق بالدين(32.29)؛

. الحض على الدفاع عن الدين بصدق (42.33)؛

. الاستغاثة بالمؤمنين الصادقين لدين الله وبيان أن الله ناصر من ينصره (45.42)؛

. محاورة المصلح قومه (55.45)؛

ويمكن أن تختزل هذه الوحدات في محورين بارزين:

محور ندب الدار الدارسة والمغنى الذي أقفر نم أهله، وهما. وإن ربطا بأعلام مكانية معينة من بيئة الشاعر وما تتعرض له من رياح عاصفة يحملان أكثر من مؤشر يجعلهما يرمزان إلى الدين والمصيبة الي حلت به فطمست هداه وجعلت الناس عنه يرضون. فمن مكونات الصورة القلم والكتاب[35]، وهما حميما الصلة بالإسلام، والغشيواء التي تعني  . قبل دلالتها المكانية. "الغراء" وهي من أسماء الشريعة. ولئن كان ذلك مستوى تشخيص الوضع القائم فإن السيف. والسيف الثامل بالذات.(في المطلع) ربما كان هو طريق العلاج الذي يرتضيه الشاعر.محور مصيبة طين الله وكيف ينبغي التعامل معها؛ ويحمل تشخيصا صريحا للواقع (تعطيل الطهارة والتهاون بالصلاة في الجماعة، وترك التكاليف والإعراض عن النصح ودعوة الإصلاح)، وتبيانا لسبيل العلاج وحضا على الأخذ بها (الحث على التعلق بالدين ونصرته ، والتضحية دفاعا عنه...).

هكذا يظهر أن القصيدة تقوم على صورة شعرية واحدة ممتدة تحمل جدلية القناع والسفور، فهي تعري الواقع بمختلف مكوناته، وتدعو إلى التغيير وتبين نهجه ومزاياة، عبر آليتين متضادين في المظهر، متعاضدتين ومتكاملتين في المخبر: الكناية والرمز في المحور الأول، والتقرير في المحور الثاني.وهو نهج لا نجد له مثيلا إلا في عيون الإبداع العربي، كرئية أبي فراس الحمداني التي مطلعها:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

  وفي الجيمية المشهورة ذات المائة والبيتين، ومطلعها:

تطاول ليل النازح المتهيج

أما لضياء الصبح من متبلج[36]

سنتناول مكونات الصورة الممتدة عبر الوقوف عند عناصر الجدول التالي:

جدول تفصيلي لمكونات الصورة كما تقدمها الجيمية

عدد الأبيات

الموضوع

المطلع/ القنطرة

المحور

تعض مؤشرات المحور

9

الليل

تطاو ليل النازح المتهيج

أما لضياء الصبح من متبلج

القلق

تطاول ـ أما لضياء الصبح من متبلج؟

ليل لا يزول ـ أزهار نبتن بهجهج (أي أرض صلبة)ـ هجائن عقرى ـ ببرج مقام الهم في أضلعي شحي ـ أفنين هم مزعج بعد مزعج ـ.

 

 

3

الطيف

أعني على الهم اللجوج المهيج

وطيف سرى في غيهبي مدجدج

الهم

الهم  اللجوج المهيج ـ غيهبي مدجدج ـ نخبط الظلماء ـ لم أر مثل الهم هماـ

23

الظعائن

وذكرة أظعان تربعن باللوى

لوى الموج فالخبتين من نعف دوكج

الفتوة

. الرحلة ومعرفة الدروب والمسالك:اللوى، دوكج...

. الربيع: ترتعي به حيث شاءت من حزيز وحندج ـ تربعها

. مواجهة المصاعب: تنجنجت جوائزها

ـ صرت جنادبها في لافح متوهج ـ يوم من الجوزاء تشوي سمومه ـ

. المسير وتحدياته: قوضوا نضائدهم ـ ياهادي الحي أدلج ـ تكنسن أحداجا فصبحن جلوى...

. سعادة ولت: كان السرور محالفي بها ..

3

التحسر على الشباب

ألا ليت شعرى هل إليهن عودة

وهل أنا من غم التنائي بمخرج

 

 

 

الأسى

هل إليهن عودة؟ هل أنا من غم التنائي بمخرج؟ خمر الشيب لمتي ـ أصبحت نضوا عن شباب مبهج.

 

19

وصف النساء

فيارب يوم قد رصدت ظعائنا

بأبطح برث بين قوز وحشرج

الفتوة ورغد العيش

رصدت ظعائناـ ظعائن بيض ق\ غنين بنضرة ـ التبر ـ لؤلؤ وزبردج ـ ظعائن لم تألف عصيدا ولم تبت سواهر...ـ غذاها رسل عوذ ـ مراتعها مرعى المهى ـ أجرع سهل بالحيا متبرج.

12

الظعائن

فما أنس لا أنس الحدوج  روائحا من أودية البطحاء فالمتموج

الفتوة

الحدوج روائح من أودية البطحاء ـ

عقل ورقم منمق ـ حر الأرجوان ـ عقائل عين من مطافل تجرج ـ سفين مرطب منضج ـ لا تنال بمعرج ـ حملها غير مخدج.

مجوال الوشاح ـ مشرق هجان ووضاح أغر مفلج.

2

الشوق

فدبت حميا الشوق في النفس واصطلت

تباريح إلا تود بالنفس تلعج

الشجى

حمى الشوق ـ اصطلت تباريح إلا تود بالنفس تلعج ـ لا أستطيع صبرا ولا بكا

4

الناقة

وقد أعسف الخرق المهيب اعتسافه بخرقاء من سر الهجان عفنجج

الفتوة

أعسف الخرق المهيب اعتسافه ـ بخرقاء من سر الهجان ـ زيافة السرى ـ إذا رعتها بعد الكلال تغشمرت .

16

البقرة الوحشية

كأني إذا أخليتها الخرق وارتمت يداها برضراض

الحصى المتأجج

اللوعة

لاعها تشمم أشلاء بمصرع بجزج ـ شرابهم دم العبيط ـ زادهم فريس طريد لعمه غير منضج ـ لم تجد سوى جلد أو عظم رأس مشجج ـ من يعلق الحتف يخلج ـ ذوات ـ ذي طمرين بالصيد ملهج ـ ضراء كالحات ـ مصاريع وحش ـ تساقطن حسرى.

5

صحب الشاعر

وقد أصبحت القوم الكريم نجارهم وخيمهم من كل أروع معنج

الفتوة

القوم الكريم نجارهم ـ كل أروع ـ تقي نقي العرض ـ يغمر الحي سيبه ـ صفت أخلاقهم

2

الشعور بالوحدة

ألائك أخداني فأصبحت بعدهم أساير خلفا نهجهم غير منهجي 

التحسر

أصبحت بعدهم أساير خلفا نهجهم غير منهجي ـ يرون جميلا ما أتوا من قبيحهم ـ ياللإله للسفاه المروج.

كما يظهر من الجدول، المواضيع الجزئية التي تتناولها القصيدة هي: الليل، والطيف، الظعن، والتحسر على الشباب، ووصف النساء، والشوق، ووصف الناقة والبقرة الوحشية والظليم، والأصحاب، والشعور بالوحدة، وهي كلها مواضيع حميمة الصلة بمسيرة الإنسان البدوي في هذه الحياة وسط بيئة طبيعة معزولة يجد فيها متسعا من وقت لتأمل الليل وما يحمله وحياة الحيوان الوحشي وما تمثله، إضافة إلى ما يرتبط بالإنسان أكثر، من ناقة وصحب وحبيبة.

وقد تراوحت المحاور بين رشوح القلق والهم والأسى، والشعور بغبطة القراق، وبين مظاهر القتوة القائمة على مقارعة التحديات واستخلاص اللذة في بيئة صحراوية صعبة، لا يجد فيها المرء من سويعات التنعم إلا أقلها.

غير أن ظلال تراجع الشباب والشعور بالنهاية تكاد تسري في أوصال القصيدة كلها. وهي أحيانا مكنية (القلق المبهم، الشعور بصدود الغانيات، ذهاب الصحب، الخ)، وصريحة حينا (خمر الشيب لمتي، أصبحت نضوا عن شباب مبهج)[37]؛ مما يدفع إلى الاحتماء بالذاكرة التي تسعف الشاعر ـ أو لنقل تخدر الشاعر ولو إلى حين ـ بطيف الحبيبة مرة وبتذكر مظاهر الفتوة، من ظعن وصحب ووصال، مرات أخرى.

لكن الغصة التي تعود به إلى الواقع المرير المرة تلو المرة (الشكوى، التحسر على الشباب، الشوق، الشعور بالوحدة)بعد رحلة خيال عذبة (الفتوة ورغد العيش...)لم تستطع إلا أن تجعل القصيدة تعود على البدء، مختومة بالغصة من واقع الناس الزائف، الذي يجانب ما كان يعرفه من قيم الصدق والوفاء التي عاشها مع صحب الشباب.

3. الصورة عند ابن الطلبه بين التمثيل والتجاوز:

اعتبر بعض الدارسين شعر ابن الطلبه، فنيات وأغراضا، مجرد تكرار للشعر البدوي القديم، والجاهلي بوجه خاص. غير أنهم في هذا الحكم لم يلتفتوا إلى خصوصية العصر الذي نما فيه، وهو عصر "طمست فيه أعلام الأدب الشعري في أغلب الأقطار العربية"[38] ولا إلى البيئة التي احتضنته في "منكب برزخي" معزول طبعته البداوة والترحال مما كان يفترض أن نحد من ارتياد جديد الآفاق. كما لم يبحثوا في شعر الشاعر ـ وفي صوره بالذات ـ عما تحمل من بصمات بيئية؛ وما تتناول من قضايا اجتماعية، تعكسها حينا وتسعى إلى التأثر بها في الواقع حينا آخر؛ وذلك ما يجعلنا نتلمس علاقة الشاعر بالتراث الفكري والأدبي من خلال ثنائية التمثل والتجاوز التي تترجم في رأينا نهجه.

3. 1. بعض سمات التمثل

يقول ابن خلدون: "اعلم أن لعلم الشعر وإحكام صنعته شروطا، أولها الحفظ في جنسه، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، بتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. (...) ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قصر رديء. ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ..."[39] وإذا كان حصول ملكة إنتاج الشعر الجيد رهينا بذلك عند القدامى، فإن ابن الطلبه ـ بحكم تفقهه في المجالين الديني والأدبي ـ قد بلغ منه درجة غير يسيرة من آيات ذلك ما يلاحظ الدارس لإنتاجه من كثرة التناص مع التراث العربي، خاصة في عهود البداوة الجاهلية والإسلامية، مما تترجمه صور شعرية كثيرة استقت من فنيات كبار الشعراء كامرئ القيس وزهير والنابغة، وذي الرمة، وحميد بن ثور، والشماخ بن ضرار، ومن النصوص الدينية والأدبية الأخرى؛ لنأخذ مثلا قوله في النوق التي تتغذى برسلها النساء اللئي يفخر بهن

...مراتعها مرعى المها ورباعها

تلاعب من أذراعها كل بجزج[40]

 

فستجد الصورة تشاكل قول امرئ القيس:

تلاعب أولاد الوعول رباعها

دوين السماء في رؤوس المجادل

وانظر كنايته على سبيل الفخر:

لنا هضبة أعيت على من يكيدها

إذا غمزوا أركانها لم تلعلع

فستجد أنها تتناص مع قول السموأل بن عاديا في الفخر كذلك:

لنا جبل يحتله من نجيره

على جنبات المجد وهو رفيع

ومع قول الفرزدق يفاخر جريرا:

فادفع بكفك إن أردت بناءنا

ثهلان ذا الهضبات، هل يتحلحل؟

غير أن محاورة النصوص السابقة لم تقم على الاجترار والتكرار، بل على التمثل والإخراج الجديد إخراجا يحمل شخصية الأديب ويعكس سمات بيئته الطبيعية والثقافية.

وانسجاما مع ما يؤثره الشعراء والنقاد القدامى، نجد عنده الصورة واضحة[41] المعالم، بارزة السمات؛ لم يترك جانبا منها إلا وملأه ووفاه حقه، سواء في ذلك الجانب الحركي أو الجانب النفسي، أو ذكر الزمان والمكان. وهو لا يهمل التفاصيل، بل يؤكدها ويدقق فيها[42].

وإذا كانت بعض صورة الشعرية صعبة الفهم على بعض الدارسين فربما تعود تلك الصعوبة إلى ما قام به من إحياء للنموذج البدوي القديم اقتفاء  "لطريقة الأعراب" التي يعيش نظير منطلقها البيئي في واقع تيرس وشنقيط يومئذ.

وقد تمثل معارضاته حميدا والشماخ آيات على يقينه بأنه قد تمثل التراث الأدبي في عصور القوة بل وبز المجلين في آلياتهم الفنية، ومنها الصورة، فأصبح متشوقا إلى لقاء السلف (ممثلا في الشماخ بن ضرار)في أحد منتديات الجنة ليحكم أيهما أحسن شعرا[43].

ومما يؤكد ذلك أن الصور المبتعثة، شأنها شأن السجل المعجمي، لا ترد أحيانا إلا في القصائد الطللية أو وصف الإبل وما إليها من حيوانات الصحراء، أو نعت المطر؛ وهي أمور مشتركة بين البيئة البدوية القديمة وبين الصحراء الشنقيطية[44].

3. 2. بعض سمات التجاوز:

لا نعني بالطبع ذلك النموذج الذي يمثل قطيعة مع الماضي أو طفرة في فنيات الشعر التي كانت متداولة في عصر ابن الطلبه والعصور التي سبقته، وإنما نعني ضربا من "العدول" عن السنن الذي كان منتشر في الثقافة العربية آن ذاك (في القرنين السابقين)، وفي البيئة الشنقيطية بشكل أخص.

لقد سعى الشاعر إلى الارتباط ببيئته ومحيطه، مما يمثل شكلا ولو نسبيا من أشكال التجاوز في عهود سادها النقل واجترار الصور التراثية التي لا مسوغ لها من واقع. يقابل ذلك عدوله عن الصور التراثية التي لا تنسجم مع بيئته أو مع مرجعيته القيمية (لم يجعل. مثلا. وصف الفرس أو الخمرة غرضا رئيسيا أو ثانويا، على عادة القدامى).

بالإضافة إلى ذلك هناك بعض الصور المتميزة، إلى حد ما، مثل الصور المستقاة من الرافد الاجتماعي والبيئي، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل، وإليها نضيف القصيدة رقم82 من الديوان، ومطلعها:

أقول لراعي الذود بين شليشل

ولبة والعينان تنهملان[45]

ف

فيها محورة أخاذة بين الشاعر والراعي بشأن المساءلة عن محبوبته الجارية وحي ذويها الذي ارتحل. وهي تقوم على استعارة مرشحة (حيث استعار البكرة للجارية على سبيل التعمية، ثم استرسل في تلك التعمية)يتضمنها حوار يحمل حرارة الواقع الشنقيطي، وصدق التجربة البدوية المعيشة، والكثير من سمات اللون المحلي (أسائل عن، حي الشقيقة، الجمل، إلخ.)

وهناك بعض الكنايات الإيحائية الدالة القائمة على توظيف الدلالات الحافة لبعض أسماء الأمكنة بالنظر إلى طاقاتها في نقل الشعور النفسي والعاطفة المستبدة بالشاعر،

بعد ما بين من بذات الرماح

ومقيم على اللوى بالنواحي

طال ليلي بساحة الكرب حتى

كدت أقضي الحياة قبل الصباح

فهو يوظف ذات الرماح (أم الحراب أو بالنشاب) والكرب (أرض بالشمال الغربي من تيرس)بما تلوحان به من مآسي الحرب وما ينتشر في "ساحتها" من كرب، يعتبر غير غريب على من بات مسهدا يغالب هما قاتلا "ما لبرحه من براح"؛ كما لا يعد غريبا على " الأرض السائبة" التي تعيش يومئذ في فترة من الحكم.

إننا نكاد هنا نلامس تلك المشتبهات الخفية التي يدق المسلك إليها، والتي إذا تغلغل فكر الشاعر فأدركها فقد استحق الفضل، كما يقول الجرجاني في أسرار البلاغة[46]

 

الخاتمة:

استطاع الشاعر ابن الطلبه، بفضل رسوخ قدمه في التراث، وإعجابه بالنهج الشعري القديم، وما وجد في بيئته من محفزات، أن يعود بالصورة الشعرية، وربما القصيدة العربية بوجه عام، إلى نماذج عصور القوة، في عهد ما قبل الإسلام وعصور الإسلام الأولى خاصة النموذج البدوي الذي استدعته وعززته دوافع بيئية واجتماعية وثقافية وإيديولوجية.

ولئن كان بعض النقاد يرى أن بناء القصيدة عنده "تمحض (...) لوظيفته الشعرية، فكانت سلسلة من الصورة الأسلوبية"[47] فأننا نراه مع ذلك واعيا لدور الشعر في حياة الناس والتحامه بالواقع، وذلك ما جعل بيئة الاجتماعية حاضرة في صورة الشعرية إلى جانب بيئته الطبيعية.

والصورة عنده، وإن لم يغب فيها المجاز والكناية والاستعارة، يهيمن فيها التشبيه، وهو ما ينسجم مع ميول القدامى إذ"كنت تراهم يفضلون التشبيه على الاستعارة (وغيرها)إبقاء على الفواصل والحدود بين الأشياء، وإيثار للوضوح وتقريب المعنى"[48].

وإذا لم يجد القارئ المتمرس بتراث العرب الشعري في أغلب تلك التشبيهات جديدا، فإن مقارنتها بأصناف التشبيه السائدة في الشعر العربي المتأخر بل نصوص الشعراء المعاصرين لصاحبها تكشف طرافتها البالغة[49]

ولا يضير ابن الطلبه بعد ذلك، وهو ابن البيئة البدوية "العالمة" الذي أظهرت "صوره الشعرية مستوى رفيعا من استعاب التراث وتمثله، والارتباط بالواقع والإسهام في توجيهه، أن يكون أكثر التناص مع فحول الشعر البدوي القديم؛ فـ"ما الليث ـ كما يقول الشاعر والناقد الفرنسي انول فاليري ـ إلى مجموعة خراف مهضومة"، والشعر تناص أو لا يكون

 

المصادر والمراجع

ابن الحسن، أحمد(1995)الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري، مساهمة في وصف الأساليب منشورات الدعوة الإسلامية العالمية.

ابن الطلبه، محمد بن محمد الأمين (2000)، ديوان محمد بن الطلبه اليعقوبي، شرح وتحقيق، محمد عبد الله بن الشبيه بن ابوه مراجعة محمد سالم بن عبد الودود تقديم محمد ناصر، نشر أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

ابن خلدون، عبد الرحمن (1957)المقدمة، بيروت.

ابن رشيق القيرواني (1988) العمدة، تحقيق د.محمد قرقزان، بيروت.

افرانسوا مورو (1989) البلاغة، المدخل لدراسة الصورة البيانية، ترجمة الولي محمد وجرير عائشة، الدار البيضاء.

الجبوري، يحي (1997) الشعر الجاهلي.. خصائصه وفنونه، مؤسسة الرسالة، بيروت.

الشنقيطي، أحمد بن الأمين (1989) الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مكتبة الخانجي ـ مؤسسة منير، القاهرة.

ضيف، شوقي (1976) العصر الجاهلي، دار المعارف، مصر.

الطريسي، أحمد (1984) الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب، بيروت.

عصفور، جابر (1983) دراسة في التراث النقدي، بيروت.

نصرت، عبد الرحمن (1976) الصورة الفنية للشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، عمان. ولد اباه، محمد المختار(1987) الشعر والشعراء في موريتانيا، تونس.


 

[1]   ايظر: افرانسوا مورو، البلاغة المدخل لدراسة الصورة البيانية، ترجمة الولي محمد وجرير عائشة’ الدار البيضاء، 1989، ص.ص10 ـ 11

[2]  انظر جابر عصفور الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، القاهرة، 1974،ص 18

[3]   أحمد الطريسي، الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب، بيروت 1984، ص.42

[4] انظر المرجع نفسه، ص. 46

[5]  إليا الحاوي، النقد والأدب.

[6]  حيث يرى مقومات الشعر سبعة أبواب: شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له.

[7]  أحمد الطريسي، م. م، ص. 59

[8]  جابر عصفور، مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي، بيروت 1983، ص. ص.8ـ 9 انظر أحمد الطريسي، م. م.، ص. ص. 50 ـ 51

[9]  يحي الجبوري، الشعر الجاهلي: خصائصه وفنونه، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص.229

[10]  أحمد بن الحسن، الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري: مساهمة في وصف الأساليب، جمعية الدعوة الإسلامة العالمية، 1995، ص. 140.

[11]  يكفي إشارة إلى ذلك قول ابن الطلبه:

      أول واجب على من كلفا         تعلم اللغة حتى يعرفا

      معنى الإله باللسان العربي       لأنه مفتاح نيل الأرب

وفيه حوار مع قول ابن عاشر في "المرشد المعين:، وهو من المتون المقررة في المحاظر:ي

أول واجب على من كلفا                     ممكنا من نظر أن يعرفا

الله والرسل بالصفات                           مما عليه نص بالآيات

[12]  الديوان، النص 37، الأبيات 5ـ 9.

[13]  الديوان النص 13، البيتان 15 ـ 16.

[14]  الديوان النص 17، الأبيات 1 ـ 3.

[15]  الديوان، النص 59، البيت 1

[16]  الديوان، النص 17، البيتان 45 ـ 46

[17] شوقي ضيف العصر الجاهلي، دار المعارف، مصر، 1976، ص.225

[18] أحمد بن الحسن، م. م.، ص. 140.

[19]  إشارة إلى عبارة "وضل إن لم يتبع" لابن الشيخ سيديا سيدي محمد في عينيته التي تطرح إشكالية الإبداع. ومطلعها:

يامعشر البلغاء هل من لوذعي      يهدي حجاه لمقصد لم يبدع

[20] الديوان النص 17، الابيات 55 ـ 59.

[21]  تعرف لدى العامة بتيجراج عربها بتجرج بحذف الياء والألف فيستقيم الوزن

[22] الديوان، ص.ص.160 ـ 161.

[23] بالمفهوم العام للكلمة

[24]  الديوان، النص 27، البيت7.

[25]  ابن رشيق، العمدة، تحقيق محمد قرقزن، بيروت، 1988، ص 489

[26]  أورده افرانسوا مورو، البلاغة ص. 19

[27]  أحمد بن الحسن،  م.م.، ص. 279

[28]  انظر مثلا ابن رشيق، م. م.، ص. 489

[29] يحي الجبوري، م. م.، ص. 218

[30] أحمد بن الحسن، م. م.، ص. 155.

[31]  أحمد الطريسي، م.م.، ص. 59

[32]  أحم بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، الخانجي ـ  مؤسسة منير، القاهرة، 1989، ص.190.

[33] مثل نصرت عبد الرحمن، الصورة الفنية للشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، عمان، 1976، ص.؟.

[34]  الديوان، النص59، البيت1.

[35]  الزبور رغم دلالته المعجمية، نجد في تلويحه بزبور داود إشارة إلى الدين الحق وهو هنا الإسلام

[36]  الديوان، النص 17، البيت 1

[37]  هل يسمح لنا تواتر مؤشرات نصية، تتراوح بين الصراحة والكتابة، بالقول إن الشاعر قرض جل شعره مرحلة ما بعد الشباب؟

[38] محمد المختار بن اباه، الشعر والشعراء في موريتانيا، تونس، 1987، ص.ص. 71 ـ 72

[39] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت، 1957، ص. 507،

[40] الديوان، النص 17، البيت 48

[41]  إذا تجاوزنا ـ بالطبع ـ المعجم، وهو ابن بيئته، وللمتلقين الأول ـ وهم يومئذ متبحرون في اللغة لأسباب عديدة في تحديد سماته وخصائصه.

[42]  يحي الجبوري، م. م.، ص.218

[43]  انظر: أحمد بن الأمين، م.م.، ص. 95.

[44]  أحمد بن الحسين، م. م.، ص. 269.

[45]  الديوان، النص 82، البيت 1.

[46]  نقلا عن: أحمد الطريسي، م. م.، ص.46

[47]  ولد الحسن، أحمد، م. م.، ص.366

[48]  أحمد الطريسي، م. م.، ص.46

[49]  انظر أحمد الحسن، م. م.، ص. 284

القائمة

من أدب ابن الطلبة الحساني المزيد

من غزل ابن الطلبة  المزيد

محمد بن الطلبة المولد والنشأة  المزيد

المعجم الشنقيطي العربي المزيد

شعر محمد بن الطلبة المزيد

محمد بن الطلبة المولد والنشأة  المزيد

التعاون المغاربي يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع مؤسسات المغرب العربي بما في ذلك الموروث الثقافي البربري العربي 

المعجم الشنقيطي العربي المزيد

التعاون العربي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات العربية المحلية والدولية   المزيد

التعاون الإفريقي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات الإفريقية النشطة في المجال  المزيد

التعاون الدولي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع الهيئات الدولية المزيد

التعاون المغاربي يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع مؤسسات المغرب العربي بما في ذلك الموروث الثقافي البربري العربي 

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث  مركز محمد بن المزيد

التعاون العربي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات العربية المحلية والدولية   المزيد

مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث  مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث مركز محمد بن المزيد

التعاون الإفريقي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع المؤسسات الإفريقية النشطة في المجال  المزيد

التعاون الدولي  يتطلع مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث إلى التعاون الثقافي والمعرفي مع الهيئات الدولية المزيد

 
top Back to top