بعض سمات البداوة الشنقيطية {الموريتانية } :
1-
البداوة و ملامح الاختلاف و الائتلاف ’
2-
مصاحبة اللوح و معية النص ،
3-
منهاج الإنصاف
4-
بين المشروع و المنجز،
5-
معالم الإلغاء و الانتقاء
6-
المدينة الشنقيطية : بين تلاشي الأشكال و تكيف المضامين
7-
انتجاع البدوي و ثقافة المستقر ،
8-
الخلاصة
1 – البداوة : ملامح الاختلاف و الائتلاف
:
لعل أبرز ما يميز البادية الشنقيطية عن معظم البوادي تلازم
ظاهرتي الظعن و التحصيل العلمي ، و هما نشاطان يناقض
أحدهما الآخر في الغالب .
ملاحظة تمهيدية
قد يكون دوام الانتقال من موضع إلى موضع ، ومن منطقة إلى
أخرى أوضح سمة للبدو و أكثرها حضورا في الذهن . و تعضد هذه
السمة سمات غيرها مثل احترام الروابط العصبية و التشبث
بعلاقة النسب ، و ما يصاحبها من حمية ، كما يشيع بين البدو
تمجيد قيم الشجاعة و الفروسية و الكرم . و تعد طريقة كسب
العيش سمة أخرى مميرة ، و هي في الغالب الرعي الوسع على
السنن التقليدي ، و الرعي يشاط قلما يوفر للبدو أكثر من
آكد ضروريات الحياة
و من الأنشطة الاقتصادية المكملة للرعي لدى البدو خدمة
القوفل التجارية إرشادا و تموينا ، و السطو و الإغارة
عليها و على غيرها أحيانا ؛.
و تكاد ثقافة البدوي العادي في مجموعة من المعارف
التطبيقية العملية المستخلصة من تجارب الحياة اليومية و
ظروف البيئة المحلية ، و هي عموما معارف شفوية يورثها
الآباء لأبنائهم ، لتأتي حياة الخلف باستمرار صورة مطابقة
لحياة السلف أو تكاد . و يمكن أن نضيف إلى ذلك مجموعة
وقفات تأملية مهمة ، يحفزها الانفراد مع الذات ضمن الإطار
الطبيعي الفسيح الذي يخضع البدوي لمقتضياته خلال معظم
أوقات حياته فيتم تداولها في صيغة أهازيج و أشعار أو حكم
و أمثال .
و يؤثر عن البدو و الأعراب أنهم عادة أقل عناية بالعلم و
بالتعلم من سكان المدن و دونهم في ممارسة الشعائر الدينية
غالبا ، كما كان معروفا منذ عهد البعثة ، حتى قيل
" ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد
الهجرة : و هو أن يعود الرجل إلى البادية و يقيم مع
الأعراب
، بعد أن كان مهاجرا . و كان من رجع
بعد الهجرة إلى موضعه {في البادية} من غير عذر يعدونه
كالمرتد "
بيد أن البداوة تختلف اختلافا بينا بين إقليم و آخر ، فنجد
مربي المواشي في المراعي الوفيرة نسبيا في شعاب الجبال
القرا {في سلطنة عمان} يمارسون نوعا من الحياة البدوية ، و
يجوب مربو الأغنام شمال الجزيرة العربية ، و هناك يمارسون
نوعا آخر من أنواع حياة البدو ’ بينما كان عهد قريب نجد
بقية من البدو الخلص مربي الإبل يتتبعون مواضع نزول المطر
في وسط الجزيرة العربية ، و يعيشون بطريقة شديدة الشبه
بالطريقة التي ألفها أسلافهم منذ عشرات القرون .
غير أن الذهن – و خصوصا لدى الباحثين الذين تلقوا
تكوينهم في الغرب ممن لم عناية بالتاريخ القديم أو الوسيط
– كثيرا ما ينصرف إلى غير جماعات البدو في شبه الجزيرة
العربية و شمال أو شمال غرب إفريقيا ، بل كثيرا ما يحصر في
الذهن من يطلق عليهم بعض الدارسين " بداة الفروسية و الحرب
"
الذين انتشروا مند قرابة ثلاثة آلاف
سنه في شمال غرب آسيا ، وخاصة شمال و شرق إيران ، فنشأ
هناك نوع من البداوة المحاربة الممقوتة التي كانت مصدر
تهديد لكثير من الحضارات الواقعة في شمال غرب آسيا و خاصة
الحضارة الإسلامية في بعض الفترات . و قد لا يحضر في ذهن
بعضهم عند ذكر البداوة إلى بداوة الغجر
الهائمين في أوروبا .
ويعود كثير من الباحثين في حديثهم عن بادية شيقيط إلى
إتباع أسهل السبل للحكم عليها ، وهو أن توزن بميزان غيرها
من البوادي ، كما لو كانت هناك حتمية طبيعية ، أو تاريخية
، بنموذجها تتعبأ الفضاءات البدوية أيا كانت ، بمحتوى
ثقافي مماثل كيفا و ربما تماثلت كما أيضا ، و بصورة تبيح
الحكم على كل بدوي بأن ليس له من الثقافة المكتوبة حظ يذكر
يستوي في ذالك البدوي الشنقيطي و
غيره ، وهو ما يدحضه الواقع .
2 – البادية الشنقيطية مصاحبة اللوح و معية النص ّ
يبدو أن البداوة أو "البداوات " التي أشير إلها في بداية
هذا الحديث تغاير في كثير مما تحيل إليه بداوة الشناقطة ،
و خاصة في مجال الثقافة فقد شاعت في البادية الشنقيطية
ثقافة مكتوبة ذات شأن ، و تم في هذا الفضاء تبني نهج فريد
من السلم و الإنصاف كان اختياره ، على ما يبدو ، نابعا من
الفئة نفسها الأكثر إقبالا على التعلم ، فقد نبذت طوائف من
هذه الفئة العنف الجسدي و استبدلته بالاحتكام إلى النص
الشرعي و إلى العقل السليم و يتم ذلك غالبا دون أي إكراه
أو إلزام من حاكم أو قوة سياسية أو عسكرية . و رأت هذه
الفئة في امتشاق القلم ، بدل السيف ، مصدر قوة واعتزاز ،
فتمكنت بمرور الوقت من تكوين رأس مال رمزي شيدت به حصونا
دينية و خلقية لحفظ الأنفس أو الأموال العائدة إليها أو
إلى الأتباع
و أزالت كثير من مظاهر الحمية
البدوية مثل الأخذ بالثأر دون احتكام للشريعة
و سعت أن تستنبت في أرضها قيما
حضارية مرتضاة ، في طليعتها إشاعة المعارف المكتوبة عادة ،
و بعض مظاهر إعمار الأرض
مثل حفر الآبار و ممارسة حرف
اقتصادية كالتجارة و الزراعة ، كما شيدت مستقرات بشرية
بعضها قائم إلى اليوم
وواظب أفرادها على الاستماتة في
طلب العلم
بشكل لا نجد له نظيرا في جل بوادي
العالم
وقد تم ذلك في ظروف طبيعية و بشرية
بالغة الصعوبة ، نورد منها نموذجا يعد واحد من مئات
النماذج التي عاشها أجيال الشناقطة خلال القرون الأربعة
الماضية :
كان محمد بن محمد البخاري بن حبيب الله
شيخ محظرة شنقيطية ، وهو مشهور
بالعلم و الورع ، و قد حكي في سياق حديث له مع طلبته ، و
هو يحثهم على المواظبة على التعلم ، الحادثة التالية؛ قال:
" لو كان لمتعلم أن يذعن لأي ظرف يحول بينه وبين الدراسة
يوما واحدا لكففت عن الدراسة في يوم جرت أحداثه على النحو
التالي :
لقد كنت طالبا أدرس في "محظرة محمد مختار بن حبيب الله
ابوه
الشهيرة ، و في فجر أحد الأيام جاء
النذير ليخبر بأن جيشا مدججا بالسلاح ، متخصصا في السلب و
الغصب ، قد أخذ طريقه نحو حينا و ليس في الجيش المذكور من
ينتمي لأي جماعة لنا بها صلة
. فاتخذ القرار بالانصراف من وجهه ، و التنكيب إلى بلد
أكثر أمنا و تم تقويض الخيام و حمل أهم الأمتعة بأقصى
سرعة، وأخذنا نغذ السير من الفجر حتى منتصف الليل، فنزل
الحي ولا تسأل عن ما أصاب الناس والدواب من إعياء، فشق علي
رغم أني كنت أسير طيلة اليوم مترجلا أن ينقضي يوم كامل دون
أن أتلقى درسا جديدا.
وكان الظلام شديدا ولا سبيل حينها إلى مصباح غير نور
النار، والصحراء التي نزلنا بها جرداء لا تنبت شجرا ولا
وجود بها لأي مادة تصلح الإيقاد النار. وفوق ذلك يمنع في
مثل هذا الظرف إيقاد النار ليلا؛ إذ يحتمل أن تدل اللصوص
على الحي، وكان الحل أن عمدت إلى ناقتين حلوبين – ولبنهما
المادة الوحيدة التي أعتمد عليها خلال الدراسة – فنزعت
شماليهما، وفككت فتل الحبال المكونة للشمالين، و نفشت تلك
الحلفاء،
واستعرت من إحدى الأسر هودجا وفروافغطيت
الأول بالأخير بحيث لامست أطراف الفرو أطراف الفرو الأرض
لتحجب النور و تحد من حركة الهواء، ثم دخلت تلك القبة و
قدحت النار بصفيحة معدن وحجر صوان بينهما ذبالة كتان،
وأوقدت من حلفاء الحبال ما أضاء لي، و أخذت للوح و القلم و
الكتاب ، وشرعت أكتب بيد وأسعر النار بالأخرى حتى كتبت في
لوحي "قفا " {نحو صفحة عادية } من آخر مختصر خليل وحفظته
قبل طلوع الفجر
و معلوم أن منهاج رفع الظلم و انتزاع الحقوق لدى الفئة
المشتغلة بالتعلم، منذ أن نبذت السلاح أو نبذه بعضها على
الأقل
و استمرأ ذلك البعض مقولة حملت
مبالغة و أطلقت دون قيد لتفعل فعلها هي "من حمل السلاح فقد
ترك الصلاح"، ويستبعد استخدام العنف دوما، ويرفض الاستسلام
غالبا، و يعمل على تسخير الظالم وصد العدو باستخدام مجموعة
من الوسائل "السلمية" السبل "التربوية " مثل:
1 تحلي ذوي المكانة العلمية بسلوك العالم الورع القدوة ،
مما يكسبهم تلقائيا مهابة، ويزيدهم مكانة .
2 الدفع بالتي هي أحسن لحمل العدو على الانتقال من خانة
المعادات إلى خانة الولاء و الصداقة
؛
3. تبنى مبدأ الحياد غالبا ولابتعاد عن كل ما له صلة
بالصراعات المسلحة بين الفئات المتحاربة؛
4. استحضار أسلحة الانتقام الإلهي من كل ظالم أو متسلط
{التازبة } وهي "سلاح ماض"واسع الانتشار لديهم، واستخدام
"السر" و ما في معناه "مما يضن به على غير أهله "؛
5. التعويل على الابتهال والضراعة إلى الله عز وجل لكف
الضرر عنهم، وجلب النفع لهم ولمن أعانهم؛
6. اللجوء أحيانا إلى المداراة بالمال وإلى التنكيب أي
تجنب الأماكن والمسالك التي يتعهدها اللصوص عادة
؛
7. إذا كل هذه الآليات ولم تفد كان من حق من أصابهم البغي
أن ينتصروا بالقوة المادية بقدر ما يردع الظالم ويرد الظلم
، وهو اختيار قلما يلجأ إليه لنجاعة ما يستنفد قبله من
وسائل .
وكثير ما يتم رعف الظلم في الحالة الأخيرة بالاستناد إلى
طائفة من ذوي الشوكة تنتصر في المقابل بركات وضمانات
أخروية من لدن الشيخ المستجير، وربما كان الشيخ سيدي محمد
الكنتي الأكبر، وقد اشتهر بالعلم و الكرامات، من أقدم
الشناقطة الذين استخدموا هذا النهج عندما استعان، في القرن
الخامس عشر للميلاد، بمجموعة من المغافرة
لإخضاع الإمارة اللمتونية التي
كانت تسيطر على غرب بلاد شنقيط، فبذلك رفع عنه ما ناله من
حيف أخواله "ابدوكل" وكسر شوكتهم. و يرى محمد مبارك
اللمتوني أنه استخدم "جدولا" قضى به على تفوقهم
3- تبني منهج الإنصاف
دعا بعض علماء البادية الشنقيطية إلى نوع من المنافسة
المعرفية، وإلى ضرورة وجود الآراء المختلفة وإلى التمسك
دوما بالصبر والرويه ، وأشادوا بما تم من ذلك، مركزين، على
الإطارين الديني و القرابي الذين يشكلان المرجعية الأساس
في المجتمع الشنقيطي يومها، يقول الشيخ محمد المامي بن
البخاري:
{وافر }
ولم يبرح لدى فحلين منا |
شقاق في علوم العالمينا |
وفي القصيدة نفسها يتوسع الشيخ محمد المامي في مجال
التنافس على السلطة محددا آداب المنافسة و مبررا حدودها
وداعيا إلى الإنصاف وإلى الالتزام باللياقة والأدب:
يقوم بأمرنا منا أصيل |
ينازعه عليه الأقربونا |
نزاع سلاسة لاخرق فيه |
ويغلب بالأناة الغالبونا
|
وهذه المسألة تبدو كما لو كانت مسلمة في زمن الشيخ محمد
المامي إذ لانجد من اعترض عليه أو سفه قوله، بل نجد محنض
بابه بن عبيد الديماني يحدد في هذا السياق طريقة اختيار من
يولى السلطة :
{كامل}
فاغدوا على نصب الإمام بقرعة |
وابغوا بذاك نصيحة الإسلام
|
إن من يتأمل مثل هذه النصوص وما شابهها يستوقفه أمر هؤلاء
الشناقطة وما نوهوا به من خلافات علمية تزيد العالم تمكنا
وصلابة عود، وتمهد طريقا مستقيما للراغب في الوصول إلى
الحكم .
و نرى أن تبني هذا المنهاج في المنافسة على الوصول إلى قمة
السلطة أمر يدعو للاستغراب في مثل ذلك الظرف ، فالطريقة
السلمية التي يرمي القوم إلى اتباعها هي بجلاء :"نزاع
سلاسة لا خرق فيه "يكون خاتمته فوز الأكثر أناة وحلما و
يوضحون أن الاحتكام إلى القرعة هو الطريق الأصلح لاختيار
من يقوم بالأمر العام .ى كان هذ في النصف الأول من القرن
التاسع عشر الميلادي ؛
فمتى كان النزاع على القيام بالأمر العام نزاع سلاسة يتم
حسمه بالأناة والحلم وباللجوء إلى الاقتراع ، خصوصا في تلك
الفترة وفي فضاء بدوي عربي إسلامي أهي "شواهد" صامدة تنبثق
انبثاقا من "اللاشعور السياسي "
وتستمد جذورها من حياة المدن التي عاشها السلف قبل ذلك
بقرون ؟ أم أنها تجليات برزت من "اللاشعور الجمعي"
لها أصول بعود إلى عهد أفلاطون أو الفارابي في السياسة
المدنية و آراء أهل المدينة الفاضلة؟ أم هو استشراف و
قراءة في المستقبل غذتهما ثقافة أصيلة و حدس بدوي مصيب...؟
4 – بين المشروع و المنجز:
لا نرى صوابا استبعاد احتمال تضمنه الأسئلة السابقة، فلا
مانع أن تكون قد أسهمت مجتمعة في صياغة هذا الطرح؛ بيد أن
الذي أطر له بصورة مباشرة، وإن ظل مجرد مشروع لم يكتب له
أن يتحقق على أرض الواقع بشكله الواضح الذي لا غبار عليه،
هو ذلك الجهد الدؤوب الذي ثابرت عليه مجموعة من العلماء
المستنيرين ومنهم ابن الطلبه وأضرابه؛ وقد اتخذت جهودهم
أشكالاعديدة : منها الدعوة إلى منظومة القيم المحمودة من
صبر و حلم وورع، و سمو إلى المكرمات العوالي؛ يقول بن
الطلبة مخاطبا قومه؛ وما من شك في أنه يوجه الخطاب من
خلالهم إلى الناس
{خفيف}
وامروا بالمعروف وانهوا عن المنـــــــــــــ |
ــــكر واسمعوا للمكرمات العوالي |
و الهوينى دعوا وللمجد فاسعوا |
وصعاب العلا بصعب الفعال |
وهي قيم تحقق منها ما أصبح حلية تستدعي الإشادة والتنويه:
{بسيط}
نعم الأخلاء والإخوان ديمان |
قم هم لمعال الخمس ديوان |
العلم علمهم والعقل عقلهم |
والحلم حلمهم والدين ما دانوا |
وينشئ، مغتبطا بما تبناه قومه من حلم ومعال، وما انتهجوه
من اهتمام بعلوم القرآن والآداب:
{خفيف}
دينهم حفظ دينهم وعلاهم |
وعلوم القرآن والآداب |
{طويل }
حلومهم أحلام عاد ودينهم |
بنوه على الأس القويم الممنع
|
{طويل}
وفتيان صدق قد دعوت فبادروا |
لمحمدة تعلو على كل بيع |
هم ملكوا ما بين شرق و مغرب |
وسادوهم بالحلم لا بالتترع |
وقد وجدت الدعوة إلى هذه القيم {خاصة العلم والحلم والصبر
والورع} آذانا صاغية لدى عامة الناس وأصبحت تنافس الفروسية
والبلاء في الحروب التي احتلت الصدارة في الثقافة البدوية
الأخرى على اختلاف مواقعها ومنازعها.
وأخذت شتلات العلم وثقافة السلم التي استنبتها علماء
الشناقطة تؤتي أكلها، فتغيرت وسائل الحرب وميادينها وتطورت
أدوات المناجزة فتحولت من أدوات حربية مادية إلى أدوات
قيمية معنوية، أقصت السيف وضرب الهام، واستبعدت البندقية
وغيبت الخيل من ميادين المعركة، واقتضى الأمر الإجهاز على
الخصم بالحجة الدامغة والرأي الوجيه ليسلم ويستسلم إذاعانا
لحبر قلم محكم لا لحد سيف متجبر:
{طويل }
ولم أفحم الخنذيذ في يوم مجلس |
من الناس مشهود وماكان مفحما |
أتى ثانيا من جيده متخمطا |
يمج لغاما مستطير وبلغما |
فصد صدود المستكين كأنه |
من الذل محسوم الخصاء وأحجما |
ويصرح أحدهم بما حصل من تبدل في طبيعة الحرب:
{بسيط}
حرب الزوايا جدال أو مناظرة |
أقلامهم كقسي النبع والسمر |
هكذا حل اللوح والدفتر الملازمان محل السيف والخنجر
المصاحبين، فأصبح الكناش أحد مستلزمات الفتوة، يروح مع
الفتى ويغدو أينما توجه، وثم تغييب القوة البدنية لتحل
محلها القدرات الذهنية الفاعلة، وغدت اللازمة التي تتردد
على ألسنة الرواة:
{مشطور الرجز}
لابد "للزاوي" من كناش |
يحفظ فيه العلم وهو ماش |
وشاعت على ألسنة الرواة كذلك الفتوى بوجوب العلم على
الرجال والنساء سوء بسواء، وعد ترك التعلم منكرا من استمر
عليه كان في منزلة مرذولة دون مرتبة الحيوانات التي تصنف،
في الثقافة العربية الإسلامية ، من الحيوانات المنحطة أو
الشريرة
5 – معالم الإلغاء والانتفاء
لقد أصبح البون شاسعا بين منطلقات هذه النصوص الشيقيطية
وأغلب ما وصل إلينا من شعر البادية العربية قديما، ونعني
هنا البادية في العهد الإسلامية لا في العهد الجاهلي .
وسنكتفي بإيراد نماذج محدودة لثلاثة شعراء مسلمين عاشوا في
البادية في صدر الإسلام؛ من هؤلاء : القطامي {عمير بن شييم
}الذي يقول مفتخرا تغلب أهل بأس وبطش، لا يزالون يحاربون
أعداءهم حتى إذا لم يجدوا عدوا يحاربونه أغاروا على
إخوانهم؛ وتغلب مثال للقبيلة البدوية القوية التي كانت في
ذلك العهد "لا حاضرة لها إلا قليل بالكوفة"
وذلك رغم خصوبة أراضيها ووفرة
مياهها، فقد كانت تسكن بين أربعة أنهر مشهورة هي:دجلة
والفرات والخابور والثرثار؛ يقول القطامي:
{ وافر }
ومن تكن الحضارة أعجبته |
فأي رجال بادية ترانا |
أغرن من الضباب على حلال |
وضبة، إنه من حان حانا |
وأحيانا على بكر أخينا |
إذا ما لم نجد إلا أخانا |
ويقول النجاشي، وهو شاعر من بين الحارث بن كعب، وكان قد
هجا قبيلة عربية معرفة مصرحا باسمها فشكته إلى أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ويهمنا من أبياته
المشهورة قوله:
قبيلة لا يغدرون بدمة |
ولا يظلمون الناس حبة خردل |
ولا يردون الماء إلا عشية |
إذا صدر الوراد عن كل منهل
|
ويستفيض شاعر من شعراء صدر الإسلام ثو فريط العنبري في وصف
بين مازن التميميين مقارنا إياهم بقومه بالعنبر في قطعة
تعد من روائع الشعر العربي يومها، وفيها تنقلب الموازين
أيضا فيصبح المنكر خير مرغوبا، ويغدو الخير شرا مستطيرا:
{بسيط }
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم |
طاروا إليه زرافات ووحدانا |
لا يسألون أخاهم حين يندبهم |
في النائبات على ما قال برهانا |
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد |
ليسوا من الشر في شيء وأن هانا |
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة |
ومن أساءة أهل السوء إحسانا |
كأن ربك لم يخلق لخشيته |
سواهم من جميع الناس إنسانا
|
إن هذه النصوص وهي "نصوص ، مواقف" غير محايدة، تشجعنا على
القول بأن أجزاء كثيرة من البادية الشنقيطية، لم تعج في
جوهرها، منذ بداية القرن الحادي عشر الهجري {السابع عشر
الميلادي } بادية بما يحيل إليه المصطلح من محامل الثقافة،
بل هي نمط من العيش مزدوج : فيه ما يحصل في البادية من
تعامل آني مع المكان واعتماد كبير على تربية المواشي، ولكن
فيه أيضا، وهذا بيت القصيد، بعض ما يحصل في المدينة من
أنشطة علمية حضرية، وبعض ما يتم فيها من تراكم ثقافي و توق
دائم إلى الاستزادة من المعارف، مرتبطين بعادة بفترات
الأمن و الرخاء وبحصول فائض اقتصادي مهم . كما فذ نما في
هذه البادية ما يمكن أن ندعوه شتلات بدت فيها مخايل ظهور
محموعات ستتخصص في أنشطة بدوية وحضرية متشعبة .
6- المدينة الشنقيطية: بين تلاشي الأشكال وتكيف
المضامين
لقد حصلت تطورات بالغة الأهمية لامست المجال الشنقيطي
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان أبرزها ما
يتعلق بمصير بعض المدن؛ فمدن القوافل التي شيدت على مسالك
التجارة في الهوامش الجنوبية للصحراء الكبرى مثل تيمبكتو و
تازخيت، {شمال شرق المجال الشنقيطي } قد أصيبت بالتفكك
والوهن، خاصة منذأن تمكن الأوروبيون من اكتشاف الطرق
البحرية عبر المحيط الأطلسي، وأخذت مسالك التجارة العالمية
تتحول إلى البحر بدل الصحراء الكبرى. وتزامن ذلك {وربما
كان بسببه }مع احتدام نزاعات مدمرة بين المجموعات البشرية
والبنيات السياسية المتعاطية مع المجال البدوي الشنقيطي
والمجالات المصاقبة له، فانحطت مكانة العلماء في تلك المدن
لدى أولي الأمر ثم لدى العامة، وربما غدوا مطاردين،
فاضطروا إلى الهجرة من مدنهم التي مزقتها الفتن، واختل
فيها الأمن وانحسرت فيها موارد العيش
وتوجه منهم كثيرون، منذ منتصف القرن الحادي عشر للهجرة،
إلى المدن الصحراوية الواقعة غربا مثل بيرو أو ولاته وآبير
شيقيط ووادان، ولكن هذه المدن الأخيرة الأخيرة ما لبثت أن
اجتاحتها الفتن والنزاعات أيضا، فغادرها جمع من علمائها
مولين وجوههم شطر البادية الشنقيطية، وخصوصا جانبها الغربي
القريب من مراكز التجارة الأوربية على شاطئ المحيط الأطلسي
وعلى ضفتي سافلة نهر السينغال،
حاملين معهم زادا معرفيا رفيعا كان قد اكتسب في المدن وطور
فيها، ووجد هؤلاء العلماء في تلك البادية الملاذ الذي
ينشدونه
.
وأدرك ألئك الفقهاء "المهاجرون" أن التعامل مع البادية
الجديدة عليهم يقتضي التكيف مع مقتضياتها، فقد استجدت
ضرورات في التعامل مع الكتاب ومع النص عموما نراها تشكل
المدخل الأنسب لخصوصية المحضرة الشنقيطية، فقد تم اختيار
المختصرات
دون الأمهات ليتيسر انتشار النص بين الناس بين الناس و
ليسهل تحصيله وتتسنى معييته، لا في متن كتاب فقط بل في صدر
حافظ أولا.
ويعد تجنب المواد ذات الوزن الثقيل وتلك التي يسرع إليها
العطب أحد ثوابت الحياة البدوية، وطبيعي أن تزداد سهولة
حمل النص باطراد كلما كان أشد اختصارا و أصغر حجما و أقل
وزنا، إلى أن يصل إلى الوضعية المثلى في حالة حفظه عن ظهر
قلب، فعندها ينعدم وزنه وحجمه من المنظور المادي، ويأمن
عليه حافظه التلف مادام ذلك الحافظ قيد الحياة .
ويكون " اللوح " لا الكتاب ولا الدفتر، الوسيلة الأنسب
لاستظهار النص وصحبته الدائمة ، وذلك لما يمتاز به اللوح
من متانة، وخفة وزن ، وتوفر مادة، وقليل كلفة؛ وما يتيحة
من أمكان تجدد الاستخدام. ثم إن ما يناله من عظيم بركات
"اللوح الحفوظ" كفيل بتعزيز مكانته في مجتمع إسلامي محافظ.
فليس مجانبا للصواب القول بأن المحضرة الشنقيطية هي "جامعة
اللوح ومعية النص " أكثر مما هي مدرسة الكتاب والدفتر
والمسجد
7- انتجاع البدوي و ثقافة المستقر:
يبدو تأسيسا على ما سبق، ودون حاجة إلى أن نبعد النجعة ،أن
للبادية الشنقيطية التي أنجبت ابن الطلبة، مرجعية حضرية
ما، ظلت حاضرة في "اللاشعور الجمعي "الذي يتسرب منه ما
تسرب إلى خطاب النخبة العالمية ، وربما ظل يوجه سلوكها من
طرف خفي خلال القرون الأربعة الماضية على الأقل،رغم ما
يمارسه أغلب بلك النخبة من التنقل من موضع إلى موضع،
والارتحال من منطقة إلى أخرى، كعامة البدو.
وقد يجد المتفحص ظلال لحضور النموذج الحضري في مخيال
المتعلمين من أهل بادية شيقيط حتى ليخيل إليك أن حياة
الحضر كانت المثل الأعلى عندهم، خلافا لما عليه البدو عادة
من نظرة متعالية تجاه من سواهم، فالبدو يعدون حياة المدينة
حياة مفضولة، إن لم تكن مرذولة وينعون على سكان الحضر شيوع
التملق وسهولة الخضوع
وندرة الشجاعة، وينعتونهم أحيانا بالبخل وبضعف البدن
وفساد الذوق، ويعدون المدينة مكانا وخيما، ساكنوه أكثر
تعرضا للأمراض والاعتلال الجسمي والنفسي من سكان البادية،
ويوافقهم في ذلك بعض الباحثين المعاصرين؛ فمن هؤلاء من قال
: "إن البادية تنجب الإنسان و المدينة تسحقه"
ويؤكد الكاتب البرتغالي فالنتاين فرناند: أن مجموعتي
"الوداية" و"البرابيش " اللتين كانتا تمارسان الانتجاع إلى
الشرق من الشاطئ الموريتاني خلال النصف الأخير من القرن
الخامس عشر الميلادي، ظلتا تنظران إلى سكان المدن نظرة
دونية وتعتبرانهم أتباعا
وهاهو ابن الطلبه يخرج ولو ضمنا عن بعض ما تواضع عليه
البدو حتى أصبح لديهم مما يدرك بداهة وهو أن باديتهم خير
من الحضر مطلقا فهو يرى أن باديته بلغت برائق أيامها
الغاية القصوى التي لا تنال عندما أوقفها في مصاف حياة أهل
الحضر، فيما قد يعد مبالغة من مبالغات الشعراء تجعل
البادية ندا للحضر أو تتفوق عليه وهكذا يشي بعظم شأن الحضر
لدى صاحب الديوان :
{خفيف}
فالديار التي بجنب "قديس " |
عاد معمور خيفها مهجورا |
فلنا في لواه أيام عيد |
عز من قد بدى بهن الحضورا |
الخلاصة
عرصت هذه الورقة ومضات من سمات البادية الشنقيطية التي
تغاير في جوهرها مختلف البداوات في العالم، فبادية
موريتانيا تتمتع بخصائص فريدة تؤهلها لأن تنال من اهتمام
الباحثين ما لم ينله غيرها . فقد شيد بها مشايخ الشناقطة
آفاقا للعلم ، ومساحات للسلم ما تزال فيها مجالات فسيحة
تستوجب البحث التقصي، ومن الظواهر اللافتة للنظر في هذه
البادية شيوع معية النصوص وتمليها، واصطحاب الألواح
و"الكناش" في الحل والترحال؛ وإيجاد آليات عظيمة الفعالية
لإقامة العدل وإشاعة السلم ورفض الاستسلام .
المراجع :
ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث و الأثر، مادة عرب.
ابن الحسين {الناتي} ، "المرابطون والذاكرة الجمعية خلال
القرنين 18و19" مجلة مصادر، الكتاب الثاني، كلية الآداب ،
جامعة نوكشوط، 1999.
ابن الطلبة {محمد بن محمد الأمين اليعقوبي} ديوان محمد بن
الطلبه، تحقيق محمد عبد الله بن الشبيه، مراجعة: محمد سالم
بن عدود، تقديم محمد بباه بن محمد ناصر نشر: أحمد سالك بن
محمد الأمين بن ابوه بدار النجاح الجديدة ، الدار البيضاء،
2000
ابن الفلالي {محمد عبد الله بن البخاري }كتاب العمران
مخطوط لدينا نسخة منه .
ابن الكرار {محمد بن محمد محمود اليعقوبي}مقابلة يوم السبت
16 أغسطس 2003
ابن خلدون {عبد الرحمن } مقدمة ابن خلدون ، بيروت، دار
الجيل .
ابن عبد الله{ ددود} ، الحركة الفكرية في بلاج شنقيط خلال
القنين الحادي عشر والثاني عشر {17-18م} رسالة لنيل شهادة
الدراسات العليا، كلية الآداب، جامعة محمد الخامس 1992.
أبو تمام، {حبيب بن أوس الطائي} ديوان الحماسة، شرح الخطيب
التبريزي عالم الكتب، بيروت، [د. ت]
الجابري {محمد عابد الجابري } نقد العقل العربي : العقل
السياسي العربي : محدداته و تجلياته المركز الثقافي
العربي، بيروت ، ط.1991.
الخزاعي {أبو عبيد القاسم بن سلام }، فصل المقال في شرح
كتاب الأمثال [دون معلومات نشر}
الشنقيطي {أحمد بن الأمين } الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ،
مكتبة الخانجي و مكتبة منير ط.3، 1989.
المأمون بن محمد الصوفي {ت1232هـ}، ديوانه {تحت الطبع}
المامي {الشيخ محمد} ديوان الشيخ محمد المامي ، مخطوط
لدينا منه صورة.
المامي {الشيخ محمد}، كتاب البادية، مخطوط بحوزتنا نسخة
منه بخط محمد عثمان بن محيي الدين بن ابوه.
وات، مونت كومي، البدو، ترجمة إبراهيم خورشيد وغيره، كتب
دائرة المعارف الإسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت
1981.
اليدالي {الشيخ محمد بن سعيد، تـ.1166.} نصوص من التاريخ
الموريتاني: شيم الزوايا وأمر الولي ناصر الدين ورسالة
النصيحة، تقديم وتحقيق محمذن ولد باباه، بيت الحكمة تونس،
1990
-claval. Paul .la logique de villes.litc.pars
|