نشأة المعجم الشنقيطي
أما بالنسبة لبلاد شنقيط فقد كان جهاز القراءة
المحظري المحددَ الرئيس لمعالم ثقافة ستتجاوز
محيطها العربي وما سيشهده من انحطاط إبان القرنين
الهجريين الحادي عشر والثاني عشر (عصر الإنحطاط)،
بتمثل الثقافة العربية الإسلامية في أزهى وأنصع
فتراتها: عصر الجاهلية وصدر الإسلام،
تجلى ذلك في اعتماد بعض المتون اللغوية والأدبية
والفقهية كديوان "مختارات الشعراء الستة" للأعلم
الشنتمري، وبعض الدواوين كديوان غيلان (117هـ)
وكعب بن زهير وحسان بن ثابت. ومن كتب الأدب
والتاريخ كتب: "الأمالي لأبي علي القالي" و "وفيات
الأعيان لابن خلكان" (608-681هـ) وكــــتاب
"الكامل" للمــبرد و"خزانة الأدب" للبغدادي
و "صبح الأعشى" للقلقشندي و"بهجة المَجالس وأنس
المُجالس" ليوسف بن عبد البر القرطبي و"لامية
العرب" للشنفرى، ولامية العجم لمحمد بن إسماعيل
الطغرائي، وشرحها الذي حلاها به الصفدي.
ومن المتون النحوية: مصنفات ابن مالك (672هـ):
"الألفية" في النحو و"المثلث" و"المقصور
والممدود"؛ وكذلك كتاب "الآجرومية" (ونظمه) وملحة
الإعراب و"منظومة العمريطي".
أما في المجال الفقهي فقد اعتمد القوم فيما
اعتمدوا: "مختصر الشيخ خليل" في الفقه المالكي
(776هـ) و"الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني ونظم
عبد الواحد بن عاشر.
كما اعتمدوا الأنظام التعليمية والحواشي في مختلف
المجالات العلمية لسهولة الحفظ، بدءا بأنظام
القرآن المتصلة بعلومه بما فيها من دراسات صوتية
فونوتيكية ومورفولوجية، ومن ثم باقي العلوم؛ ففي
النحو: "طرة ابن بون" (1116-1220هـ). وفي الأصول:
"مراقي السعود" لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم
(1152-1233هـ)، وفي الحديث: "ألفية العراقي"
(806هـ)، وفي البلاغة: "الفية السيوطي" (911هـ)،
وفي العقيدة: "إضاءة الدجنة" للمقَّرِي (1041هـ)،
وفي المنطق: "السلم" للأخضري (918-983هـ).
وقد مثلت هذه المدونة العلمية المتنوعة مقررا
حتميا على كل متعلم شنقيطي، يروم الانتقال من
دائرة الانفعال والتأثر إلى فضاءات الفعل والتأثير
حفظَه في صدره جهازا تعليميا وتحليليا؛ يتيح له مع
الزمن خلق تراكم معرفي به تتحدد نوعية إضافته
الفردية والجماعية. فكنا نسمعهم في هذا الصقع
الترابي يقولون: هذا فقه محمد بن محمد سالم؛ وذلك
نحو يحظيه بن عبد الودود؛ وتلك ظلال مدرسة أهل
الشيخ سيديا؛ وذلك منطق أهل العاقل؛ وذاك قضاء
الموسويين ...
من جهة أخرى، ساعدت الظروف الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية في المجتمع الشنقيطي على تقسيم
المجتمع وظيفيا "...حيث تفرغ حسان للحرب وفنونها،
وانكب الزوايا على التعليم والعبادة وغيرها من
الأعمال السلمية كنوع من التعويض بالقلم عن السيف
ووسيلة للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية والثقافية".
كما كان التوجه إلى التعرب فعالا وحاسما بحيث
استجاب الكل لهذا التوجه،"ولا يعسر على الباحث
تعليل هذا التعرب اللغوي من عدة وجوه؛ ولعل من
أهمها أن سكان بلاد شنقيط قد وجدوا في الحسانية
مستوى من العربية منطوقا دخل بيوتهم وعبر عن
حياتهم اليومية بعد أن كانت عربية المتون والشروح
منحصرة في النخبة المثقفة وهو ما أحسن محمد
اليدالي التعبير عنه بقوله: "إن الحسانية هي
القنطرة لأهل هذا العهد إلى العربية".
إننا وإن كنا في هذه المحاولة المتواضعة نأمل
التأريخ للدرس المعجمي الشنقيطي، فلاشك ستواجهنا
بعض العراقيل؛ فالدرس المعجمي في هذه البلاد، على
أهميته، لم يحظ بما ناله غيرُه من الفنون الأخرى؛
"... ولئن كان الدرس النحوي والبلاغي والعروضي في
بلاد شنقيط ثابتا على وجه العموم برامج ومتونا
فإننا لا نملك معطيات كافية عن تاريخ الدرس
المعجمي، ولهذا الدرس قيمة كبرى بالنسبة لتاريخ
الحياة الأدبي في بلاد شنقيط حيث لم يكن الأدب
مادة دراسية مستقلة ذات برامج ومتون، وإنما كان
الاهتمام به في الأصل والنشأة معطى من درجة ثالثة،
إذ هو وليد الدرس اللغوي وهذا متمم للدرس الديني:
ربع عزة وبيت القصيد".
ويمكن أن نتلمس بعض الشواهد على أن الدرس المعجمي
كان قائما في مناهج الطلاب ولدى أئمة المحاضر، فقد
وقفنا في هذا البحث على بعض نفائس التآليف
المعجمية المخطوطة التي تثبت اهتمام الشناقطة
بالدرس المعجمي ناهيك عن الكثير من النسخ المخطوطة
للقاموس. ومن هذه التآليف:
- شروح وتعاليق على القاموس وخطبته مثل: نتاولهم
بالشرح لفتح القدوس في شرح خطبة القاموس لمؤلفه:
أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي، وقد كثر له
العزو في العديد من المؤلفات الشنقيطية، كعزو
العلامة محمد مولود بن أحمد فال له في مؤلفه
الكفاف في باب الهبة والصدقة عند قوله:
أو لم يطب معطيه نفسا وقبل
|
دعواه إن ثبت مـا عليــــــــــه دل |
حيث قال: وفي الأثر: "لايحل مال امرئ مسلم إلا عن
طَيْب نفس"
تنيبه:
الطَّيب، المصدر بالفتح كما صرح به فتح القدوس،
وهو مقدم على تاج العروس، ولحن الحديث حرام. قال
في فتح القدوس: الطيب المصدر بالفتح ولا أعلم فيه
الكسر.
- تذييل على مثلث قطرب لمؤلفه المجيدري بن حبل ذكر
فيه مالم يذكره قطرب بن أحمد في مثلثه.
- القول الفصل في ماحذف من القاموس من فصل لمؤلفه
محمد فاضل بن افا التنواجيوي.
- الناموس في حل ألفاظ خطبة القاموس الشيخ محمد بن
حمبل الحسني.
- نبذة من تيسير الورود إلى شرح المقصور والممدود
لمؤلفه عبد الله العتيق بن ذي الخلالي اليعقوبي.
- نزهة النفوس وحلية الطروس في حل عقد إضاءة
الأدموس لمؤلفه محمد محمود بن عبد الفتاح.
- سقاية المغتل لمؤلفه مولود بن أحمد الجواد
اليعقوبي.
- شرح بانت سعاد لمؤلفه سيد أحمد بن اسمه.
- تسهيل الورود إلى معاني تحفة المودود لمؤلفه
محمد بن أبي مدين الديماني.
- نظم المعربات من اللغات لمؤلفه أحمد بن حبيب.
- شرح قصيدة بانت سعاد لمؤلفه: أحمد محمود بن محمد
المعروف ببيداد.
- نظم وطرة على مقلوب اللغة لمؤلفه محمد السالم بن
الشين.
- شرح بانت سعاد لمؤلفه أحمد بن محمد الحاجي.
- لغات العرب الموافقة للقرآن لمؤلفه محمد يحي بن
محمد المامي اليعقوبي.
- طرة نظم إضاءة الأدموس في مصطلح القاموس لمؤلفه
سيد محمد بن سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم
العلوي.
- طرة على مثلث ابن مالك لمؤلفه عبد الله العتيق
بن ذي الخلالي اليعقوبي.
- وسيلة التحرير دون العناء والتثويرلمؤلفه عبد
الله العتيق بن ذي الخلالي اليعقوبي.
- حواشي وشروح على أمالي أبي علي القالي ونوادره
لمؤلفه امحمد بن الطلبه اليعقوبي،
- نظم على المقصور والممدود للعلامة عبد الله ول
داداه الأبييري وهو نادر.
- نظم في إعراب لا إله إلا الله لمولفه محمد عثمان
بن اغشممت.
- طرة المختار بن بون
- روض الحرون على مقابل الأصح من طرة بن بون
لمؤلفه: عبد الودود بن عبد الله الملقب انجبنان.
- التحفة القيومية بتقرير الآجرومية لمؤلفه: الشيخ
سيديا ن المختار بن الهيبة (الشيخ سيديا الكبير).
- طرة على نظم محفوظات الجموع لمؤلفه: محنض باب بن
اعبيد الديماني.
- منحة الجبار في شرح الاحمرار لمؤلفه المختار بن
اندعكوري.
- طرة نظم الجموع لمؤلفه: محنض باب بن اعبيد
الديماني.
- مصباح الظلام في شرح الكلمة والكلم والكلام
لمؤلفه: المختار بن ألما.
- نظم في إعراب الهيللة لمؤلفه محمد بن الطلبة
اليعقوبي.
ومن هنا نهيب بالباحثين إلى الاهتمام بهذا التراث
النفيس الذي تتعاوره مخالب الضياع وحوادث الأيام،
حيث إن هذه المؤلفات مازالت بكرا يمكن لكل واحدة
منها أن يكون موضوع بحث تخرج،
وعليه فالدرس المعجمي كان قائما في هذه البلاد وله
خصوصياته ومريدوه إلى جانب بقية العلوم الأخرى،
وهذا ما يؤكده قول الدكتور محمد المختار بن
اباه:"...ونحن نفترض افتراضا كاليقين أن الدرس
المعجمي كان قائما على نصوص أدبية يستظهرها الطلاب
ليستحضروا معاني مفرداتها، ومن هذه النصوص الأدبية
المدروسة لمعاني ألفاظها، ومن الشواهد الشعرية
المرفقة بمتون النحو والبلاغة والعروض تكونت في
الأصل الثقافة الأدبية الشنقيطية وإن أسهمت في
إثرائها لاحقا كتب المختارات الأدبية كالأمالي
لأبي علي القالي(288-356هـ) وحماسة أبي
تمام(188-231هـ) وأغاني أبي الفرج(284-356هـ)
المتداولة خارج الدرس النظامي."
ويرجع بعض الباحثين وجود هذا الدرس إلى بدايات
نشأة المدن التاريخية كولاته ووادان وتيشيت وشنقيط
حيث كان يعتمد على بعض النصوص النثرية والقصائد؛
وإن كان قد نضج هذا الدرس في بعض مناطق البلاد
الأخرى؛ ومن ثم كان للدرس المعجمي - أي للمادة
الأدبية النصية المسهمة في تكوين المثقف - دور
حاسم في توجيه اختياراته الأدبية. "... والغالب
على الظن أن هذا الدرس كان في بداية العصر الحساني
وخاصة في مدن التجارة الصحراوية يتعمد على بعض
النصوص النثرية والشعرية المتفرقة كمقامات الحريري
وقصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير. وخلال القرن
الثالث عشر الهجري كان قد طغى على هذا الدرس خاصة
في منطقة "القبلة" شعر أهل الجاهلية وصدر الإسلام
واحتل مركز الصدارة في المدارس أثران: ديوان
الشعراء الستة الجاهليين بشرح الأعلم الشنتمري
وديوان ذي الرمة غيلان (77-117هـ)".
ويتجلى اهتمام القوم بالدرس المعجمي في اقتنائهم
للقواميس وكتب اللغة والدواوين الشعرية كديوان
المتنبي (303-354هـ)،
وكان اللحن سبة شنيعة لما يجلبه على صاحبه وذويه
من الصغار في أعين الناس، "يقول المختار بن المعلى
الحسني
1269-1349 هـ 1852 - 1930 م:
اعلم عمرك الله، وهدانا وإياك بهداه، أن العربية
غير محصورة ولا مقصورة، بل هي منثورة ومنشورة،
ومريدها في المنصفات، كطالب الشيء بعد الفوات،
وإنما هي في البيت النادر، والمثل السائر، ودواوين
الشعراء وخطب الخطباء، من العرب العرباء والجاهلية
الجهلاء، فمن لم يزاحمهم على حياضها، ضل في
مآسادها وغياضها، واشتبهت عليه رباها، واختلفت
عليه ظباها".
كما يؤكد المعنى نفسه عبد الله بن الحاج حماه الله
الغلاوي (1209 هـ)بقوله:
ولم أكن جذيل هذا الفن
شغلت بالنحو وبالبيان
|
|
ولا علي لومه لأني
وإن هذان لساحران
|
ولم يكن شاعرنا بدعا من غيره من العلماء والشعراء
الذين سبقوه ولا الذين عاصروه بل زاد عليهم بكونه
شغف بالحياة العربية البدوية وتمثلها؛ وكان فقيها
لغويا معروفا وسيدا جوادا مذكورا، شغوفا باللغة
العربية "... وكان يبري النبال ويصطاد بها الوحوش
لشغفه باقتفاء العرب، ومن هذا النزوع إلى اقتفاء
العرب وتعرب النخبة في أقوى مظاهره سهل الانطلاق
لفهم شعر اليعقوبي".