بناء النص في ديوان محمد بن الطلبه اليعقوبي
المشروع: تفسير الواضح
يشير بهذا العبارة المقترحة عنوانا لهذه الورقة إلى وعينا
بحاجة مثل هذا الموضوع إلى طرح إشكالي غرضه الأساسي رياضة
الذهن بحثا عن مقاربة على شيء من الملاءمة وربما الفائدة.
ولذا رأينا الانطلاق من فرضية إمكان التمييز في المواضيع
المقترحة للبحث عموما وبشكل أولي بين صنفين كبيرين:صيف
المواضيع المصوغة ابتداء بصورة إشكالية وذلك عندما يتعلق
الأمر بمعضلة ما أو بقضية تبدو معقدة أو غامضة؛ وصنف
المواضيع ذات الصياغة التقريرية المقدمة بصورة أحكام جاهزة
أو إثباتات مجانية هي أساسا عبارة عن أطروحات (بمعنى قضيا
البحث) أو فرضيات عمل.
في الحالة الأولى يحتاج الأمر إلى البحث عن أجوبة وحلول
للمسائل المطروحة وذلك غبر استدعاء مادة معرفية من شأنها،
إذا استحضرت، رفع الإشكال وح المعقد وتوضيح الغامض. وفي
الحلة الثنية يقتضي المقام بالمقابل طرح الأسئلة وإثارة ما
قد لا يكون بديهيا من الإشكالات التي تترتب، على الأقل على
الشحنة الوثوقية المحايثة للصياغة الإثباتية للأطروحة
موضوع البحث.
ولعل موضوع هذه المحاولة، بحكم ملفوظه (" بناء النص في
ديوان محمد بن الطلبه اليعقوبي")من الصنف الثني من مواضيع
البحث.
ذلك أنه يقوم على فرضية ذات شقين: أولهما أن شعر محمد بن
الطلبه كما يمثله المجموع منه في ديوانه المطبوع أو مجمل
التراث العلمي والأدبي والثقافي المتصل بهذه الشخصية يمثل
في مجموعه نصا واحدا أو مجموعة من النصوص معمارا محددا
يقتضي المقام هنا تخصيصه ووصفه.
الموضوع إذن من حيث حدوده المرجعية مؤسس من جهة، على مفهوي
الببناء والنص وهما ينتميان عموما إلى مجال الدراسات
الأدبية، مع أن آخرهما متصل بمستوى أعم هو مجال الثقافة؛
ومن جهة أخرى على وقائع من التاريخ الأدبي والثقافي
الموريتاني والعربي العام.
هذه الوقائع بترتيب مختلف عن ترتيبها في منطوق الموضوع
مراعاة لأهمية وأسبقية العناصر هي:
-
(أولا): شخصية محمد بن الطلبه التاريخية بوصفه أحد أبرز
الوجوه الثقافية والأدبية وخاصة الشعرةي في المجال
الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري؛
-
(ثانيا): مدونة شعرية معتبرة كما وكيفا تمثل إنتاج هذه
الشخصية الشعري؛
-
(ثالثا): ما جمع فعلا وحقق من شعر الرجل وطبع في ديوانه
الذي بين أيدينا.
على أنه إذا كان شعر محمد بن الطلبه اليعقوبي، شأنه في ذلك
شأن محمد نفسه رحمه الله، من الوقائع التاريخية الثابتة
ثبوتا يمنحها صفة الحقائق المسلمة، فليس كذلك ما قد يحمل
على هذا الشعر من خصائص مؤسسة على مفاهيم عامة وما قد
يلابس تطبيقات هذه المفاهيم من أحكام القيمة.
يتعلق الأمر هنا تحديدا بمفهوم النص (حضورا أو غيابا) في
مدونة شعرية بعينها أو بالطابع النصي لشعر معين (هو هنا
شعر ابن الطلبه)؛ كما يتعلق بإمكان الحديث عن أن لنص ما
(ليكن هنا مادة الديوان ككل أو عناصر هذه المادة: الأقوال
الشعرية التي تضمها دفتاه)بناء خاضعا لقواعد معمارية
مخصوصة.
ذلك أن أيا من مفهمي النص والبناء الآنفي الذكر وخاصة ما
يتعلق باستخدامهما الإجرائي بالقياس إلى مدونة معينة ليس
واضحا بما يكفي ومن ثم لا يمكن اعتبار أي منهما معطى أوليا
قابلا للتسليم به دون سابق تمحيص ونقاش.
وعليه فإن أول ما يتعين من خطوات في هذا المسعى هو محاولة
استيضاح وتدقيق لمفهوم النص عموما، ما خصائصه؟ ما الذي
يمنح كلاما ما صفة النص دون سواه؟ وما خصائص وحدود النص
الأدبي وخصوصا الشعري. فإذا اتضح مفهوم النص يبقى العمل
على كشف المقصود ب "بناء النص": كيف تبنى النصوص الشعرية.
على أي مستوى من مستويات التحليل يتم تحديد الوحدات
النصية؟ وبعبارة أكثر تحديدا ما عناصر النص الشعري. وما
نوع العلاقات القائمة بنين هذه العناصر؟
وحرصا على الإفادة مما ينتظر أن يوفره مثل هذا الضبط
والتحديد للمفاهيم الإجرائية من شروط ملائمة لقراءة
المدونة النظر المتوخاة، فننا نعول، في الإجابة على
التساؤلات السابقة، على الرصيد المعرفي المتداول في حقل
الدراسات الأدبية والنقدية. في ما يتعلق بالوقائع، لا وجه
لاعتبار شعر محمد ابن الطلبه (وهو مدونة هذه المحاولة)
مهما قيل في فرادته. ظاهرة معزولة، ولا يتصور هذا الشعر
بمنجاة من نوع ن الخضوع لسلطان عوامل المكان والزمان
والثقافة التي لم تشهد ظهوره فحسب وإنما شكلت إطاره الخاص
والشروط الموضوعية لبروزه؛ بل المفترض والمتوقع أن يكون
هذا الإنتاج الأدبي مرتبطا بأكثر من سياق: فهو ينتمي من
جهة، بحكم زمان ومكان ظهوره إلى حقبة تاريخية بعينها وإلى
سياق ثقافي إقليمي محدد؛
ومن ثم فلعله من المفيد عقد مقارنات محدودة ومركزة على
مفهوم بناء النص تحديدا بين ديوان محمد وبين المدونات
الشعرية المعاصرة والتي ينظر أن تكون بينها وبينه، من نفس
النظور، علاقات (اتفاق أو اختلاف) ذات دلالة.
ثم إن ديوان محمد بن الطلبه من جهة أخرى، بحكم انتماء
صاحبه الثقافي العربي العام وخلفية توجهه الأدبي والنقدي
(بالمعني المدرسي الخاص) يمت بأمتن الوشائج إلى التراث
الشعري العربي القديم
ذالك ما يستفاد من بعض الأخبار
ووقائع التاريخ الأدبي الموثقة وتدل عليه أقوى دلالة هموم
الممارسة الشعرة لدى الشاعر كما تعكسها بعض مود ديوانه وهي
تحور بشكل صريح أو ضمني مدونات تراثية شعرية قد تتسع لتشمل
إنتاج عصر أدبي بكامله وقد تضيق فلا تتجاوز آثار بعينها
لثلة من قدامى الشعراء.
في هذا السياق أيضا، نفترض أن يمثل نموذج المدونة المساجلة
إحدى الآليات الكشفية التي يمكن الركون إليها في سبيل
تبيين ووصف الملامح البنائية للديوان.
الإيجاز
توصنا في مقدمة هذه المحاولة المخصصة أساسا لما نعتبره
فحصا أوليا لملفوظ موضوعها "(بناء النص في ديون محمد ان
الطلبه")سعيا إلى تصوره واقتراح طريقة لتناوله، إلى أن هذا
الموضوع يلزمنا بمهمتين: أساسية هدفها الجواب عن السؤال: "
ما خصائص بناء النص في ديوان محمد بن الطلبه؟" وقبلية
إعدادية تقتضيها المهمة الآنفة الذكر وتتمثل في استكناه
وتدقيق مفهومي الموضوع المركزين (النص والبناء). ذلك أهن
لكي يتسنى لنا وصف بناء النص وتخصيصه في الديوان، علينا
قبل ذالك، أن نجتهد في استيضاح وضبط هذين المفهومين بقصد
تحديد ماهيتهما وتحقيق المقصود بهما على وجه الدقة في هذا
السياق.
إلا أنه تجدر الإشارة هنا، قبل مباشرة ما نحن بصدده من
تدقيق للمفاهيم ومحاولة اقتراح تصور لكيفية بناء النص في
ديوان بن الطلبه، إلى ما سبق أن حظي به هذا الموضوع من
تناول، حسب اطلاعنا، مع تفاوت في درجات التحديد والتركيز.
وهو ما جعلنا نخشى مخلصين أن لا تكون معالجتنا للموضوع
برمتها إلا ضربا من اقتحام الأبواب المفتوح على مصراعيها.
فموقفنا في هذا المقام، ونحن نتساءل: هل غادر الدارسون ما
يستحق القول؟، أقرب جدا إلى موقف عنتر بن شداد وشعوره وهو
يفتتح المعلقة منه إلى موقف حكيم المعرة وهو يفخر واثقا
بقدرته، وإن كان "الأخير زمانه"، على الإتيان " بما لم
تستطعه الأوائل".
ذلك أنه قد لا يكون من المبالغة في شيء وصف من درسوا هذا
الموضوع من قبل بالسلطة المعرفية أو بمراجعة التقليد من
أهل الذكر في هذا الميدان، الذين لا يسع أمثالها من قليلي
الزاد إلا الرجوع إليهم والركون إلى اجتهاداتهم وآرائهم،
والاكتفاء بالاستشهاد بأقوالهم والإحالة إلى مصادرها.
أول هؤلاء الدارسين المرحوم أحمد ولد الحسن الذي عالج هذا
الموضوع في رسالته عن "أسلوب محمد بن الطلبه..." (1980) إذ
عقد له الباب الرابع المعنون"عمود القصيدة" (ص 58-75)
مقسما إياه إلى فصلين: أولهما عن الأغراض والمعاني" (ص60
وما بعدها) وثانيهما عن "المعارضات" (ص70 وما بعدها)؛ ثم
عاد إليه ضمن أطروحته عن "الشعر الشنقيطي في القرن الثالث
عشر الهجري: مساهمة في وصف الأساليب" (1987/[1995]) فخصص
الفصل الثالث من الباب الثاني لـ" بناء النص وأغراضه" (ص
313-367) حيث كان شعر ابن الطلبه أحد النماذج المدروسة.
تناول هذا الموضوع كذلك وإن بشكل غير مباشر، وجزئي لا
يتجاوز حدود الظاهرة الأدبية التي درسها، عبد الله بن محمد
سالم بن السيد ضمن عمله عن "المعارضة في الشعر المريتاني:
مدخل لدراسة الإحتذاء عند شعراء القرن 13هـ" (1995) فتعرض
لبناء المعارضة من خلال المقارنة (ابن الطلبه/ الأعشى؛ ابن
الطلبه/الشماخ) في غضون الفصل الأول من الباب الأول (ص
69ـ77) قبل أن نمحض له الفصل الثاني من نفس الباب حيث
اعتبر الباحث، وفق تصنيفه لأنماط المعارضة،" ابن الطلبه
نموذج (نمط) التمايز داخل التطابق"(ص 107ـ132) ممثلا لما
سماه "المعارضة التامة" (ابن الطلبه/حميد بن ثور) في مقابل
نمط "التماثل داخل التمايز"الذي أطلق عليه "المعارضة
الناقصة".
وآخر ما اطلعنا عليه في هذا الإطار، وقد لا يكون الأخير،
هو الدراسة القيمة التي قدم بها محمد بباه بن محمد ناصر
"ديوان محمد ابن الطلبه اليعقوبي الشنقيطي
الموريتاني"(1999) وخاصة فقرتا هذا التقديم الرابعة عن
"الأغراض والمضامين" (ص60 وما بعدها ) والخامسة المعنونة
"في خصائص النص" (ص71وما بعدها) التي اكتفي فيها بالإشارة
إلى عنصري البناء والموسيقى
تدقيق المفاهيم الإجرائية:
يتعلق الأمر أساسا بمفهوم البناء فهو الذي يتمتع هنا
بمركزية فعلية تجعل منه المفهوم الإجرائي الأول إن لم يكن
الوحيد. غير أن مفهوم النص، فضلا عن تضامنه دلاليا
وتركيبيا مع مفهوم البناء في إطار المركب الإضافي الذي يشد
أحدهما الآخر، له في نفسه من قابلية الاستشكال ونقص في
التحديد ما يدعو إلى محاولة توضيحه وضبطه.
مفهوم النص:
لعل ما عرفه ويعرفه لفظ نص راهنا من سعة نطاق الاستعمال
يشكل عامل تثبيط يواجه محاولة لتدقيق هذا المفهوم وضبط
مدلوله في تعريف جامع مانع.
يظهر ذلك في الأدبيات المدرسية (دراسة نص، تحليل نصوص،
...)، وفي أوساط المثقفين والمتعلمين بوجه عام؛ فضلا عما
عرفه هذا المصطلح من رواج في سياق مد الخطاب الحداثي وخاصة
في كتابات السيميائيين ومنظري الأدب ونقاد في ستينيات
وسبعينيات القرن العشرين، حيث تواتر تناوله موضوعا ومفردة
من مفردات اللغة الواصفة.
ذلك أن لفظ نص، على كثرة استعماله يبدو على شيء من
الاضطراب والضبابية فلا يكاد يفهم إلا فهما مقاربا، ومن ثم
فهو يفتقر إلى تحديد دقيق لمدلوله يوضح ماهيته ووظيفته
وحدوده ويراعي في نفس الوقت خصوصية سياق الاستعمال.
وحتى لا نبتعد كثيرا عن مدلولنا نلاحظ أنه إذا كان مصطلح
"نص" في طبعة ديوان محمد ابن الطلبه التي بين أيدينا قد
استعمل أحيانا طبقا للمعنى المتداول، مرادا به أحد عناصر
الديوان أي قول شري محدد من الأقوال الواحد والتسعين
المجموعة بين دفتيه التي رقمت تسلسليا من 1إلى 91معتبرة
نصوصا متعددة، حيث كانت هذه الأرقام حدودا فاصلة بين
الأقوال الشعرية المختلفة مؤشرة إلى بداية القول ةنهاية
سابقه، قائمة للقول مقام العنوان، فاستعملت في الإحالة
إليه عند الاستشهاد (النص، البيت/ البيتان/ الأبيات...)
فقد استمل نفس المصطلح في مووضع آخر["النص مشروحا"
(ص87)] للدلالة على مجوع المادة الشعرية كما يمثلها متن
الديوان معتبرا هذه المرة نصا واحدا. وعلى تباين مدلولي
"النص" في الاستعمالين، فإن كل منهما وحهه.
وقد سبقت الإشارة أعلاه إلى ارتباط مفهوم النص الوثيق،
وجودا وعدما، بالمستوى العام للثقافة. ذلك أن ماهية النص
إنما تتحدد أساسا على هذا المستوى وفي إطار ثقافة بعينها،
إذ من شأن كل ثقافة أن تنتخب، اعتمادا على جملة من
المعايير، من بين جميع الأقوال التي تنتجها أبناؤها محموعة
محدودة ترفعها إلى أعلى درجات الاعتبار وتوليها من الأقوال
التي ينتجها أبناؤها مجموعة محدودة ترفعها إلى أعلى درجات
الاعتبار وتوليها من العناية حفظا وتداولا ما يدل على ما
تراه لها من قيمة ثقافية تمثل إضافة جوهرية على مدلول
القول اللغوي، "فإذا كان الكلام لا يحصى فإن النصوص نادرة"
كما يقول ميشال فوكو. والمجموعة البشرية ، في كل الأحوال
هي التي تقرر، وفق منطق ثقافتها الخاصة، ما هو نص وما ليس
بنص.
المسألة إذن هي مسألة قيمة ثقافية ومنزلة رفيعة يحظى بها
القول المعتبر نصا، في سلم تراتب الأقوال المعتمد في
الثقافة المعنية. وما دام الأمر هنا يتعلق بمدونة شعرية،
فمن المعروف كما يؤكد ذلك ابن خلدون أن " فن الشعر من بين
[فنون] الكلام كان شريفا عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان
علومهم وأخبارهم، وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه
في الكثير من علومهم وحكمهم"
وإذا كان النص يتحدد انطلاقا من اللانص الذي لا يتجاوز
مدلوله ما تفيده الألفاظ والعبارات اللغوية حال استعمالها
لغرض التواصل اليومي، وهو خاضع في تنظيمه لقواعد الخطاب
المعتادة؛ فغن الطابع النص لقل ما مرهون بتضمه، بالإضافة
إلى مدلوله اللغوي مدلولا ثقافيا نمثل قيمة داخل الثقافة
المعنية. وذلك ما يعطيه في نفس الوقت خصائص مميزة وتنظيما
داخليا فريدا.
أولى خصائص النص إذن هي مدلوله الثقافي أي أنه يتضمن قيمة
تتمسك بها المجموعة البشرية؛ ولذلك يعمل على حفظه من
الضياع، فيقيد ويدون في كتاب
ويحرص على تعليمه. للناشئة: فالقول من هذا المستوى يجب
الأخذ به والنسج على مواله والاستشهاد به والعمل بمقتضاه.
ذلك أن التعليم هو وسيلة النص إلى بلوغ هدفه من بقاء
واستمرار يؤمنهما التكرار عبر الأجيال؛ ولا أدل على ذلك من
أن المقررات المدرسية والجامعية لا تتضمن إلى النصوص.
ثم إن النص نتصف عادة بالعسر والغموض أو التركيز المضموني
(الغنى) ولذلك احتاج إلى أن توضع له الشروع والتفاسير، وقد
يصبح التفسير بدوره نصا فيحتاج إلى مفسر جديد وهكذا. ومن
خصائص النص النسبة إلى مؤلف معترف بأهليته لأن تصدر عنه
نصوص، أي نسبته إلى مؤلف حجة: فالمؤلف الذي يعتد بكلامه هو
الذي يمن اعتبار (بعض)أقواله نصوصا، وأبوته لقول ما هي
التي تمنح هذا القول قيمته بوصفه نصا.
هكذا يكون مسعانا إلى استيضاح مفهوم النص قد أفضى إلى عرض
جملة من المؤشرات الدالة، عند الاقتضاء، على نص بالمعني
الثقافي للكلمة، وما دامت هذه المؤشرات الدالة، عند
الاقتضاء، على وجود نص بالمعنى الثقافي للكلمة. وما دامت
هذه المؤشرات تعتبر من أهم خصائص النص عموما والنص العربي
الكلاسيكي خصوصا، فما مدى توافرها في شعر محمد بن الطلبه
اليعقوبي؟
إلا أنه يجدر أن نسجل هنا أنه ليس لهذا التساؤل ولا
للفقرات التي سبقته من غاية أبعد من تجاوز مجرد التقبل
الإمعي يعضده نوع من الإدراك الحدسي لظاهرة ثقافية كتلك
التي يمثلها شعر محمد ابن الطلبه، إلى إبراز الطابع النص
لهذا الشعر عن طريق تمحيص المفاهيم والاحتكام إلى معايير
واضحة.
وعليه فما احتفال المجتمع الذي أنتج فيه ولأجله هذا الشعر
سواء عنينا فئة الزوايا أو المجتمع الحساني ككل وعنايته به
كل هذه العناية إلا دليلا على توفر هذا الشعر على المزية
الثقافية التي تسمو بالكلام إلى شرف النص: فقد "سارت بشعر
ابن الطلبه الركبان" وحفظه الرواة ودون ما دون حتى قيض
الله له، بعد ما يقرب من قرن ونصف من وفاة الشاعر، من
اجتهد في جمع ما تفرق منه في شتى المصادر وتحقيقه وضبط
متنه وشرحه وتقديمه ونشره في صورة ديوان أنيق. وأخيرا، ليس
تنظيم هذه الندوة الدولية حول ديوان ابن الطلبه إلى تعبيرا
عن الاحتفاء به ومثلا على التثمين الجمعي لشعره.وف نفس
السياق، لا يبعد، وإن لم نقف على ذكر صريح لذلك، أن يكون
شعر محمد بن الطلبه، سواء في حياة الشاعر أو بعده، قد اتخذ
مدة للتعليم طلبا لاكتساب مهارات شتى منها التمكن من اللغة
العربية الفصحى التي كان لابن الطلبه بها اهتمام مشهور
ومنها صناعة القريض جريا على عادة طلاب الشعر، خاصة في
عصور القوة، في روايتهم وتمثلهم إنتاج أساتذتهم من كبار
الشعراء.
أما محمد ابن الطلبه الشخصية التاريخية فهو كما يستفاد من
سيرته وما اشتهر به من تبحر ورسوخ قدم في علوم عصره وتبريز
في الشعر خاصة، وما ذاع له من صيت وفشا عنه من طيب الذكر
بين العامة، فضلا عن الخاصة، حتى قال عنه أحمد بن الأمين
إنه "فاق أقرانه في العلم والكرم وجودة الشعر"
وإن "كل أخباره تكتب بالذهب"؛
فقد كان مثال المثقف العالم والمؤلف الحجة الذي تحفظ أقواه
وتدون وتتداول تعلما وتمثلا واحتذاء. وما ذلك إلا لأن آثار
هذا الشاعر الفذ، ثي من منظور المجتمع الشنقيطي والثقافة
العربية الإسلامية عموما، من ذلك الصنف السامي من الأقوال
التي تسمى نصوصا إشارة إلى رفعة منزلتها في سلم القيم
الثقافية المثلى في عرف العرب والمسلمين.
أما حظ شعر محمد بن الطلبه من الحضور ضمن مقررات آداب
اللغة العربية في مختلف مستويات التعليم الرسمي، فهو كبير
بالقوة نظرا لقيمة نصوصه بالقياس إلى تراث الأمة؛ لكنه
قليل بالفعل لقلة انتشار هذا الشعر وانحسار تداوله حتى
الآن وبمقدار جد محدود أيضا، في النطاق الضيق لقطر الشاعر.
ولعل ما تم من نشر ديوان محمد بن الطلبه محققا ومشروحا
وتنظيم ندوة دولية تتناول مختلف جوانبه من زوايا نظر
متعددة، من أحمد الجهود وأنجعها في سبيل توسيع نطاق
المعرفة بهذه المدونة الشعرية المتميزة وبمبدعها حتى يتبوآ
مكانهما الصحيح في تاريخ الأدب العربي.
أما التحديد الإجرائي لمفهوم النص فيتأسس على اعتباره
الوحدة الشعرية المراد فص ووصف بنائها.
وعليه فالنص بهذا الاعتبار هو القول الشعري المستقل
المستغني بفضائه الخاص، المحدد بحدود شكلية ومضمونية مقررة
في الأعراف الثقافية وتقاليد التراث الشعر العربي.
وطول النص يتفاوت تبعا لنفس الشاعر ومراده، وحده الأدنى
البيت المفرد وهو وحدة بناء النص الشعري العربي الكلاسيكي
الأساسية. ويصدق هذا المفهوم على طائفة من الأبيات تقل عن
16 بيتا وتسمى قطعة أو مقطوعة؛ كما يصدق على ما زاد من
الشعر على 15 بيتا وهو المقصدة أو القصيدة، واسم الجمع
قصيد وقد يطلق على القصيدة باعتبار الجنس.
على أن الحدين الأعلى للقطعة والأدنى للقصيدة محل خلاف.
مفهوم بناء النص:
يفهم من البناء الفعل ونتيجة الفعل معا. فهو يعني من جهة،
الإجراء الذي يتم به تركيب أجزاء شيء معين ليتحقق كيانا
مكتمل الخلقة؛ ومن جهة ثانية، يدل على الصورة النهائية
الحاصلة من فعل التركيب.
والمقصود ب "بناء النص" أو "بناء القصيدة" هو صورة تركيبي
مكوناتها. ولا يتعلق الأمر هنا بالمكونات المجردة للقصيدة
من مطلع ومقدمة وتخلص (أو اقتضاب) وغرض وخاتمة (أو مقطع)،
بقدر ما يتعلق، على هذا المستوى، بوحدات النص المعنوية
النص المعنوية التي تتمتع، من الناحيتين الدلالية
والتركيبية، باستقلال نسبي يسمح للمحلل باعتبارها وحدات
دنيا، وهي ما يسمى في التراث النقدي العربي بالأغراض.
وللدلالة على نفس مفهوم "بناء القصيدة" أخذا من عبارة
"عمود الشعر"، تستعمل عبارات "هيكل القصيدة" و"معمار النص"
وأحيانا"عمود القصيدة" أخذا من عبارة "عمود الشعر" التي
اشتهرت بعدما أطلقها المرزوقي في الموازنة في مقدمة
شرحه لديوان الحماسة ممثلا لما به قوام الشعر في نظره
بالعمود الذي ترتكز عليه وتقوم به الخيمة.
إلا أن "عمود الشعر المعروف عند العرب" كما سماه المرزوقي
وعدد أبوابهفي
مقدمة شرح الحماسة، ليس أكثر من تعداد لسمات أسلوبية تتصل
بمستويات مختلفة من النص الشعري دون أن تتعرض بوجه خاص
لمسألة بناء القصيدة العام بالنظر إلى غرضها أو أغراضها
المكونة لها، ولا من حيث النسق الذي ينظم مختلف أجزئها.
يصدق ذلك تعريف المرزوقي نفسه لعمود الشعر في الموازنة
بأنه الأسلوب الذي سلكه فحول الشعراء من عهد الجاهلية وما
بعده، في بلاغة الكلام وإحسان المعاني والبعد عن التكليف،
وتجنب استكراه الألفاظ والمعاني؛ فتحصل من ذلك أن عمود
الشعر عند المرزوقي "هو مجموع شرائط الإجادة اللفظية
والمعنوية"
أما مفهوم بناء النص الشعري فهو يتجسد بالدرجة الأولى في
العلاقات بين الوحدات الغرضية المكونة له؛ وبهذه العلاقات
تتحدد ملامح بناء النص بساطة وتركيبا وانفتاحا وانغلاقا،
باعتبار نظاما شاملا لوحداته المختلفة.
وعلى ذلك فقد يتطلب وصف بناء القصيدة العربية عامة وعند
ابن الطلبه خاصة، مبدئيا، دراسة عينة تمثيلية من النصوص
المفردة الإبراز مكوناتها الغرضية وبيان العلاقة بين هذه
المكونات. وذلك لكشف نموذج أو نماذج البناء المهيمنة على
المدونة المدروسة بكاملها.
لكن نظرا لما" بين أغراض النص وبنائه من ارتباط شديد"،
كما لاحظ المرحوم أحمد ولد الحسن؛ حيث لا يمكن تصور بناء
نص ما دون دراسة غرضية أو أغراضه باعتبارها المكونات التي
تعطي علاقاتها الوظيفية هذا النص شكل بنائه؛ فإن مقاربة
البناء هنا سعيا إلى ضبط نموذج أو نماذجه الصورية في
النصوص الديوان ستأخذ في الحسبان محورية الغرض بوصفه
الوحدة البنائية الأساسية.
ذلط أن تمييز المكونات الغرضية لنص ما بعضها عن بعض، برسم
حدود كل مكون في علاقته بغيره، له قيمة تحديدية بالقياس
إلى بياء النص. وبالمقابل، فإن تصور بناء للقصيدة واضح
المعالم هو بمثابة الإطار الضروري لتبلور وتميز غرضها أو
أغراضها المكونة
ولمركزية الغرض بالنسبة لبناء العمل الأدبي اعتبر الشكلاني
الروسي توماشفسكي اختيار الغرض والصياغة أهم لحظتين تنتظم
حولهما العملية الإبداعية؛ كما اعتبر وحدة العمل الأدبي
مرتبطة ببنائه انطلاقا من غرض واحد يتكشف خلاله. لكن غرض
العمل الأدبي المفرد قد يتعدد أو يكون مركبا من أغراض
جزئية فينعكس ذلك على بنائه. ولعل حالة تركيب الغرض هذه
تشكل الأساس الذي بنى عليه بلاشير تعريفه للغرض في الشعر
العربي بأنه سلسلة من الصور والمعاني تنتظم [...] لتشكل
غرضا أعم أو محوريا نوعا ما.
وضرب لذلك مثلا غرض الحب (الغزل؟) المكون في رأيه من أغراض
أخص كذكر الأطلال المقفرة، ولوعة الفراق، وذكر سالف
الوصال، ونعت المحبوبة، ومحاولة السلو، ...
على أنه إذا كان بيد الشاعر أن يختار غرض قصيدته من بين
قائمة الأغراض الشعرية المتاحة، فإنه ليس مطلق الحرية في
التصرف في الغرض لأنه من جملة تقاليد التراث الشعري التي
يعبر با الشعراء عن تجاربهم. وهذه التقاليد هي من الشعر
بمهابة المفردات من اللغة. فكما أن المعاني التي يمكن
التعبير عنها من خلال الجمل والعبارات اللغوية لا حد لها
رغم أن المعجم اللغوي محدود في عدد من الألفاظ، فإن
التجارب الشعرية التي يمكن أن يعبر عنها الشعراء من خلال
هذا العدد المحدود من التقاليد لا حد لتنوعها وثرائها.
وقد نظر النقاد عبر الأغراض والمكونات النص الشعري المفرد
نظرة تفترض بينها تراتبية معنية: فميزوا بين "غرض رئيسي"
و"أغراض ثانوية"؛ كما ميزوا بين ما اعتبروه غرض القصيدة"
وبين مقدمتها التي هي نفس مقدمة هذا الغرض المركزي. ولا
يخفى أنه إذا كان مثل هذا التمييز التراثي يلائم بعض
الأغراض كالمدح مثلا، فإنه لا ينطبق على سائر أغراض مدونة
الشعر العربي.
وإذا كان النمط الثلاثي الشهير "الوقوف على الأطلال،
الرحلة/الناقة، المدح" الذي نقله ابن قتيبة عن "تعض أهل
الأدب" لا ينطبق إلا على المدحة، بل لا ينطبق إلا على أحد
نماذج هذا الغرض، فإنه يمثل على الأقل أحد أنماط بناء
القصيدة المركب حيث تتعايش وحدات غرضية متعددة، وتتجاور
متآلفة أو متنافرة.
بناء القصيدة في ديوان ابن الطلبه:
بعد هذه التحديدات الأولية، سنحاول إعطاء فكرة عن ملامح
بناء القصيدة عند محمد ابن الطلبه اليعقوبي.
يلاحظ متصفح ديوان الشاعر الذي نضم 91 نصا تنوع هذه النصوص
الشديد، لا من حيث الأغراض التي قيلت فيها فحسب، وإنما من
حيث أشكال البناء أيضا؛ وقد أشرنا آنفا إلى أن الأمرين
وثيقا الارتباط. ذلك أنه على أساس غرض أو غراض القصيدة
تتنوع أنماط بنائها بين البساطة والانغلاق من جهة، وبين
التركيب والانفتاح من جهة أخرى.
يلاحظ كذلك شدة تفاوت طول هذه النصوص، فقد يقصر النص فلا
يتجاوز البيت أو البيتين، وقد يطول فيربو على مائة بيت.
وإذا صح ما نفترضه من عدم حياد حجم النص بالنظر إلى نمط
بنائه، فإن هذا التفاوت في طول النص ونفس الشاعر قد يهيئ
إمكانات تمايز على مستوى البناء من حيث البساطة والتركيب
وما يتربان عليه، على التوالي، من وحدة الغرض أو تعدده.
ذلك أن النصوص القصيرة مرشحة لوحدة الغرض ومن ثم لبساطة
البناء؛ بينما النصوص الطويلة يتسع فيه المجال لتعدد
الأغراض ومن هم قابلية بنائها للتركيب.
ولهذا يتعين تصنيف النصوص حسب أنماط البناء الممكنة مع
محاولة ربط كل نمط بنائي بأهم الأغراض التي استخدمه الشاعر
فيها، وتلمس وجه أو أوجه الملاءمة بين الغرض والنمط في كل
حالة.
وقد اقترح المرحوم أحمد ولد الحسن لمدونة الشعر الشنقيطي
في القرن 13هـ، وابن الطلبه أحد أكبر قطبين قيها، تقسيما
بحسب البناء، "من منظارين متقاطعين: البساطة والتركيب من
جهة، وانفتاح البنية وانغلاقها من جهة أخرى"وقد
فسر البساطة، تبعا لحازم القرطاجني، بكون "القصيدة خالصة
لغرض واحد من أغراض الشعر أو سجل دلالي واحد من سجلاته"؛
والتركيب باشتمال الكلام فيها على غرضين [...] "نسيب
ومديح"مثلا وفسر انفتاح البنية بتوالي جزئية متعددة ذات
علاقات استبدالية، دون مخطط مسبق يحدد تتابعها الخطي؛
"وأما القصيدة ذات البنية المنغلقة فهي[...] محكومة بمخطط
مسبق مضبوط والعلاقات بين مكوناتها علاقات ترتيب تلازمي
ثابت مطرد يسمح بتحديد منزلة كل مكون س من القصيدة".
-
ونتيجة لهذا التقسيم، تم "تصنيف النصوص أربعة أصناف كبرى
هي القصيدة المركبة ذات البنية المنفتحة، والمركبة ذات
البنية المنغلقة، والبسيطة ذات البنية المنفتحة، والبسيطة
ذات البنية المنغلقة".
-
القصيدة المركبة ذات البنية المفتحة: وأكثر نصوص ديوان ابن
الطلبه من هذا الصنف، وخاصة مطولات قصائده كالجيمية
(النص17):
-
تطاول ليل النازح المتهيج أما لضياء الصبح من متبلج
-
والعينية الطويلة (النص40):
على ما الأسى إن لم نلم ونجزع |
ونبكي على أطلال رأس الذريع |
-
واللمية الخفيفية (النص 60):
صاح قف وستلح على صحن جال |
سبخة النيش هل ترى من جمال |
فالجيمية مثلا تبدأ بالليل (9أبيات)، فالطيف (3أبيات)، بعد
ذلك ثلاثة مقاطع (تتكون على التوالي من: 26،19و 14بيتا)
كلها في الظعن، ثم رحلة الشاعر(32بيتا تتوزعها وحدات جزئية
من مستوى أدنى)، فالبقرة الوحشية (23بيتا)، فالظليم (5
أبيات).
وهذا البنية "قوية التواتر عند ابن الطلبه اليعقوبي حتى
كاد تميزه"
القصيدة المركبة ذات البنية المنغلقة: وتتألف من مقدمة
وغرض رئيسي وينتقل بينهما عبر تسويغ لفظي فيدعى "اقتضابا".
ومقدمة هذا الصنف متنوعة (الأطلال، الطيف، الظعائن، البرق،
المطر،...)يدخل تحت هذا الصنف من شعر ابن الطلبه:
لاميته الطويلة (النص 59) في الحث على الجهاد والطهارة
المائية:
أهاجك رسم بالغشواء ماثل |
كما لاح جفن السيف والسيف ثامل |
وقصيدته القافية البسيطة (النص 46) في مدح الرسول صلى الله
عليه وسلم:
بات المتيم مما شفه أرقا |
يا بعد منزل من أمسى به اعتلقا |
-
القصيدة البسيطة ذات البنية المنفتح: "هي التي تخلص لغرض
واحد تدخل إليه دون مقدمات، وتتحرر في متناوله من الالتزام
ببناء مطرد" وتمثلها في الديوان العينية البسيطة (النص
41):
قف بالمرابع من جو المبيديع |
سقى المرابع مرباب المرابيع |
وكثير من النصوص الغزلية (مثلا ذات الأرقام: 21،23،26،28،
29،30،34، 36،...في الديوان.
-
القصيدة البسيطة ذات البنية المنغلقة: "وهي التي تمحضت
لغرض واحد، وثبتت سنن بنائها فكانت لها تقاليدها المطردة"
وتمثلها في الديوان المراثي وهي عند ابن الطلبه متميزة
بقيامها على قيم الرجولة والصحراوية والسيادة القبلية؛ في
حين كانت المراثي عند غيره تتخللها المواعظ وتتخذ من العلم
والتقوى مادة للثناء وتختم بالدعاء.
مثال هذا النمط البنائي مرثية محمد اللامية الرملية (النص
58) في محمذن بن اياه:
كل عيش ما تراخى بأجل |
ومآل المرء موت حيث حل |
وكذلك حائيته البسيطة (النص 20) في رثاء الخرشي بن أحمد:
أزاح نومي وأغفى ليله الصاحي |
هم زوى النوم عني غير منزاح |
وعلى وجه العموم، يلاحظ قارئ شعر محمد
بن الطلبه رجوعه في الغالب إلى أصول فنية جاهلية وإسلامية
مبكرة؛ مع أن جملة قرائن(كعمله على كتاب الأغاني، اطلاعه
على ديوان المتنبي، طغيان الطابع الأندلسي والعباسي على
شعر سابقيه وبعض معاصريه؛ فضلا عن انتشار كتب تراثية من
عصور أدبية مصتلفة في الوسط الثقافي الذي عرفه) تثبت اطلاع
محمد على نماذج شعرية تعود إلى عصور أدبية أخرى.
معنى ذلك أن محمد بن الطلبه لم يتخذ من القصيدة العربية في
الجاهلية وصدر الإسلام مثله الفني الأعلى عن جهل بغير هذا
النموذج من نماذج التراث الشعري العربي الأخرى؛ ونما كان
اختياره لمذهبه الشعري الخاص، في الغالب، تبنيا لمشروع
ثقافي معين ثم عن وعي بخصائص واقعة. ولعلنا لا نبالغ كثيرا
إذا زعمنا أن سيرة ابن الطلبه، إنتاجا أدبيا وسلوكا يوميا،
ما كانت إلا سعيا إلى تجسيد هذا المشروع.
ذلك أن ابن الطلبه بالمقارنة مع شعراء عصره بخياراته
الغرضية الملفتة للنظر:فقد خلا ديوانه من الهجاء الذي جند
على نطاق واسع في الخصومات والصراع المذهبي الذي عرفه عصره
وكان قومه طرفا فيه؛ وكاد يخلو بل لعله خلا قطعا
من المدح التكسبي ومع إمكان تفسير استثناء هذين الغرضين
باعتبارات دينية وأخلاقية، فقد يكون له أيضا تفسيره الفني
انسجاما مع توجه الشاعر وخياراته الجمالية الخاصة.
من الملاحظ كذلك قلة المدح عموما وحتى المديح النبوي في
ديوان ابن الطلبه مع اعتبارها أبرز غرضين نظم فيهما
الشعراء الشناقطة. فقد كانت مدائح الشاعر القليلة في رجال
صالحين تعبيرا عن عاطفته الدينية وتوسلا بالممدوح.
وبالمثل، مع فقه ابن الطلبه وتقاه وتصوفه في آخر عمره، فقد
كان مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)قليلا في ديوانه،
تقليديا في أسلوبه.
وقد كثر في هذه المدائح عموما صور البديع التقليد فكانت
أقرب إلى الأسلوب السائد لدى معاصري محمد منها إلى ما عدل
إليه الشاعر من أسلوب ميز معظم شعره وتمثل في تمحيض بناء
القصيدة للوظيفة الإنشائية واختيار الأغراض الأكبر ملاءمة
لذلك من وجهة نظر الشعرية الخالصة التي تجعل الفن الشعري
هدفها الأول.
ذلك أن ابن الطلبه، ولعلها إحدى سمات شعره، في الحالات
المحدودة التي تناول فيها أغراضا كثيرة التداول في عصره
كالمدح والتوسل، كان يميل إلى الأسلوب السائد عند معاصريه
من الشعراء حيث يطغى البديع وتكثر الصور التقليدية.
أما الغزل أو النسيب الذي لا يكاد يوجد غرضا مستقلا عند
الشعراء الموريتانيين وهو عند أغلبهم محصور في المقدمات
التقليدية للمدائح والأهاجي، فقد صار الغرض المهيمن على
شعر محمد بن الطلبه كله: فقد افتتح به مدح النبي (ص)
والدعوة إلى الإصلاح، وأفرد له قصائد ومقطوعات كثيرة (مثلا
النصوص المرقمة:17،19،21،
23،26،28،29،30،34،36،40،55،69،82،87،...) وبالجملة فلم
تكد تخلو قصيدة لابن الطلبه من النسيب إلا مراثيه.
في ما يتعلق بالرثاء والفخر والوصف، يلاحظ بشكل عام أن
محمد في إطار التزامه بمثله الفنية العليا سلك مذهب
القدماء في يناول هذه الأغراض لكنه أدخل عليها من التعديل
ما يقتضيه الوفاء لواقعه المعيش. فكان يستهل مراثيه
بالاستسقاء لقبر الفقيد أو بالدعاء له (مولود مثلا) بأن
ينعم الله عليه بالعفو والجنة وما فيها ممن ظل وماء
وفاكهة؛ كما كان يوظف في الثناء على المرثي، خلافا للمذهب
الشائع في عصره، قيم البطولة البدوية أساسا مثل سداد الرأي
والحزم ومضاء العزيمة والصبر وحفظ الجار،...
وبال مثل نرى ابن الطلبه قد كيف غرض الفخر (سواء في ذلك
فخره بنفسه وفخره بقبيلته) مع مقتضيات حياة وقيم قومه
وإيلافهم انتجاع تيرس في القرن الثالث عشر الهجري، غير
مختار من التراث الشعري الفخري إلا ما يلائم هذه الحياة
وينسجم مع هذه القيم. فحين فخر بنفسه عدل عن الفخر
بالشجاعة وكسب رهان القوة بالاحتكام إلى السلاح والاستهتار
بالملذات، إلى التمدح بفضائل وسطه الزاوي اليعقوبي التي
تبرز في مواقف الجد من تحميل المشاق والسيادة وإفحام
الخصوم بالعلم وسحر البيان، وكذلك بتعاطي "اللهو غير
الشنع". وحين فخر بقومه، لم ينسب إليهم فضائل الحرب من
شوكة وشدة بأس وإنما افتخر بحسب اليعقوبيين وجودهم وحلمهم
واستقامة دينهم.
وإذا كان الوصف باعتباره غرضا قائما برأسه لا يكاد يستقل
بنص في ديوان ابن الطلبه، فإنه بوصفه غرضا مساعدا يتوسل به
إلى بناء أغراض الشعر الأخرى، كان كثيرا في ثنايا النصوص.
وقد محض له الشاعر مقاطع هامة من قصائده تابع فيها القدماء
فدقق في وصف الناقة قبل الاستطراد إلى وصف البقرة والثور
الوحشيين والظليم، ...إلا أن للرجل هنا أيضا خصوصية أنه"
لم يصف بل لم يذكر فره إلا ما يعرف معرفة مباشرة"، فلم يصف
الخيل ولا السلاح إلا في سياق الدعوة إلى الجهاد. وإذا كان
وصف الناقة على مذهب العرب، فإنه وصف أيضا الجمل
(الذكر)وركوبه أكثر شيوعا في عرف الشناقطة، وبذلك يكون
أضاف جديدا في هذا المنحى؛ كما أضاف البازي إلى قائمة ما
سماه أحمد ولد الحسن "الحيوانات الرديفة" يعني التي يستطرد
إليها من وصف الناقة.
لعل تفسير هذه الطرافة في مذهب ابن الطلبة الشعري كما
افترضه أحمد ولد الحسن(62:1980)
هو أنه إنما يحاول أن يبعث القصيدة العربية في شكلها
القديم، فانصرف عن الهجاء لما يتصل به من مستلزمات الخطاب
اليومي، وندر عنده المدح لما لهذا الغرض بطبعه من ارتباط
بوقائع عينية؛ وفي مقابل ذلك أكثر من النسيب لحد الإدمان
لما فيه من غنائية ما يبدو أن ابن الطلبه سعى إليه من
التأثير في واقعة الثقافي عن طريق تغليب الوظيفة الإنشائية
على مجموع خطابه الشعري.
وإذا كان محمد بن الطلبه قد تناول جل أغراض الشعر العربي،
فإنه تناولها بطريقته الخاصة. ولعله استطاع في هذا المنحى
أن يتحرر من ثقافة "المحظرة" إلى حد أن بناء القصيدة عنده
خضع في المقام الأول للوظيفة الشعرية فكانت أهم قصائده غير
ذات أغراض بالمفهوم التقليدي وإنما هي في الغالب متتاليات
من الصور الأسلوبية الخالصة
وعليه يمكن تخصيص "شعرية" ابن الطلبه بتصور نموذج يغلب
وطيفة الشعر الأسلوبية على سائر وظائفه الأخرى من معرفية
ومرجعية، فنتج عن ذلك ضمور المضمون الديني والعلمي،
وانفتاح بنية النص وانحصار مرجعه في محسوسات تعود إلى
المحيط الصحراوي تم التعبير عنها من خلال سجلات القول في
التراث الأدبي القديم كما يمثله سجل الشعر الجاهلي بوصفه
أسمى تجل لشعرية اللغة العربية خالصة من كل مضمون إخباري؛
فجاء أسلوبه قائما على ابتعاث المعجم الجاهلي، والتشبيه
الحسي، والقصيدة المكبة ذات البنية المنفتحة
ولعل معارضات ابن الطلبه، وهي من أهم نصوص الديوان، من
خير مما يجسد النموذج البنائي الذي يمكن وصفه بالهيمنة على
شعره، وذلك رغم ما سبق تقريره من تعداد صور بناء النص عنده
أو على الأقل تمثيل نصوص ديوانه لنماذج بنائية مختلفة. فمع
أن هذه القصائد كانت احتذاء لنصوص قديمة إلا أنها في
الغالب لم تكن محض تقليد ولا اتباعا يلغي ذات المتأخر
وإنما اعترافا بجودة شعر المتقدمين وفي الوقت نفسه منافسة
لهم ورفعا للتحدي الذي يمثله علو مستوى فنهم.
وخلافا لمن يرى أن تكون المعارضة، إلزاما، في البناء
الموسيقي وتتبع المعاني الكلية والجزئية للقصيدة المحتذاة؛
كان ابن الطلبه يكتفي بقالبها الإيقاعي من بحر وروي فينظم
قصيدة جديدة يظهر فيها تحرره من المحاور الغرضية والمعاني
التي تؤثر سلبا على قيمة واستقلال نصه، فكان بالأحرى ندا
للنص السابق لا تقليد تلميذ حذق الصنعة. فإذا كان ذكر
المحبوبة مثلا قد احتل معظم ميمية حميد وجزءا من كبيرا من
جيمية الشماخ فإنه لم يرد عند ابن الطلبه إلا قليلا وغلبا
ضمن ظعائن القوم.
أما لامية الأعشى الخفيفية:
ما بكاء الكبير بالأطلال |
وسؤالي وما ترد سؤالي |
وهي أساسا قصيدة مدحية فالظاهر أن محمد بن الطلبه عارضها
بقصيدة أو قصيدتين
مدمجتين في نص واحد من الشعر
الخالص حتى من غرض المدح الذي كان مدار قصيدة الأعشى؛ وأول
نص محمد:
صاح قف واستلح على صحن جال |
سبخة النيش هل ترى من جمال |
وباعتبار هذه القصيدة تحظى بمكانة خاصة عند الشاعر حتى
سماها "النفاضة"
وسنضربها مثلا آخر بعد الجيمية
الطولى لما سقناه متابعين المرحوم أحمد ولد الحسن وغيره من
غلبة نموذج القصيدة ذات البنية المركبة المنفتحة على شعر
ابن الطلبه.
وسبيلنا إلى ذلك اتعراض سريع لمكونات بنيتي القصيدتين.
بدأ الأعشى قصيدته بالبكاء على أطلال دار المحبوبة معبرا
عن حزنه لما ناله من بلى وتدمير، فشكا فراق محبوبته وبعد
منزلها الذي لا سبيل إليه لما دونه من سباسب وأهوال فلجأ
إلى تذكر وصالها الذي انقطع وجمالها الفتان فوصفه وصفا زاد
به همه ولوعته فالتمس السلو مفكرا في ناقته التي وصف قوتها
وسرعتها مشبها إياها بالحمار الوحشي وهو يجد السير إلى
الماء؛ وذكر وعثاء الرحلة وأوصابها وكلال الناقة وشكوى
ألمها مؤكدا ألا ملجأ من كل ذلك إلا انتجاع الممدوح (مخصصا
لمده 39بيتا) حيث وصفه بالكرم والشجاعة والبأس والبر وحمل
ثقال المعضلات.
ثم عاد إلى نفسه وقد فجعة الشيب فتذكر شبابه وافتخر بما
تمتع به من خصال القوة وصحبة الكرام والقدرة على كسب ود
لحسان وما كان يدبره من حملات صيد موفقة؛ وهو ما أعطاه
مناسبة لوصف الفرس وذكر ما كان يستمتع به رفقة ندامى أماجد
من أيام خصب وترف وشرب للخمر.
وتختتم القصيدة بالتحسر على هذا الماضي السعيد الذي ولى
لأنه ما كان له أن يدوم، كما أن "كل عيش" بما فيه حاضر
الشاعر المفعم بمرارة العجز والحرمان "مصيره للزوال" أيضا.
ولعل معنى هذا أنه حتى ضمن قانون الفناء المطلق تبقى بارقة
أمل، وبين قهر الأول وإغراء الثاني فتنغلق القصيدة بمثل ما
افتتحت به من شجون وأحزان وتأمل.
أما ابن الطلبه فقد افتتح لاميته باستيقاف الرفيق لمساعدته
على تبين ظعائن القوم بمن فيهن المحبوبة وهي في الريق إلى
حيث تضعف أسباب الوصل، فحثه على البحث عنهن في الأفق
وأعطاه وقت ارتحالهن ومنطلقهن وخط سيرهن المفترض ووجهتهن
المحتملة ووصف جمالهن (طول العنق، سعة العنينين، امتلاء
الأطراف، ضخامة العجز،...) واتعجله راجيا "تلاقي الظعن"
قبل أن يمعن في البعد وتقوم دونهن عوائق طبيعية صعبة
الاجتياز (6أبيات)؛ فكان رد الرفيق في أوله نفيا لوجود
سعدى التي ينسب بها الشاعر بين من تقدمن من الظعائن وفي
آخره عذلا للشاعر على تصبيه وقد تقدمت به السن
لكن شجن الشاعر وألمه لتجربة الفراق كانا من الشدة بحيف لا
يؤثر فيهما المشيب ولا عذل العذل، فأكد تعلقه المصيري
بمحمبوبته (5أبيات) وافتخر بخصال قبيلته من كرم وعزة
ونجدة وإعانة على نوائب الدهر (3أبيات) وحث قومه على التمس
بقيمهم الحميدة والصبر عليا (7أبيات)
ابتداء من البيت 33 المصرع عاد ابن الطلبه مرة أخرى إلى
ذكر ما أثارته مشاهد ارتحال الجيرة من لواعج غرام ظن أنه
سلاه، فبدأ كأنه يستأنف قصيدة جديدة فوصف منظر الظعن
المتبعدة وتابعها في خط سيرها ذاكرا ما ألفت أن تمر به ن
مواضع واصفا نجابة ونشاط وسرعة جمالهن؛ ثم دعا لهذه
المواضيع التي تقصدها أو تمر بها الظعن بالسقيا قبل إثبات
ما لا ينازع فيه منصف من فتنة هؤلاء النسوة وفرط جمالهن
وقدرتهن على سلب عقول الحلماء معتبرا من يصبو إليهن، وإن
كان كبير السن مثل الشاعر، معذورا ليس للعذال عليه من
سبيل.
بعد ذلك فخر ابن الطلبه بماضيه حيث ان شابا جذابا يستميل
الحسان فيتعلقن به حريصات على وصاله، خلافا لما يعانيه من
إعراضهن وصدودهن عنه في حاضر النص وقد شاب وشحب وساءت
حاله.
وبما أن الحضر بهذه القسوة والمرارة فلا سبيل إلى
مواجهته إلا بدكرى ماضي الفتوة والألمعية، لذلك استرسل
الشاعر في الفخر فذكر رباطة جأشه في الملمات وثباته وحسن
مشهده في المحافل وتفريجه عن المكروب وإنفاقه الليل مع صحب
كرام في الممتع والمفيد من اللهو، ثم وصف هؤلاء الصحب
بالفتاء والفتوة والعزة وعلو الهمة واستكمال خصال الخير
وقة ما يربطه بهم من أواصر الود والقربى. إلا أن هذا الشمل
إلى شتات وهذه السعادة ما كانت لتدوم، فاضطر الأحباب إلى
فراق كان أشبه بفراق الحياة.
وتمثل هذه الانتكاسة حيال الزمن وفعله المدمر لهذا النوع
الآخر من العلاقات الحميمة تجربة قاسية تصدى لها الشاعر
كعادته بالفخر بصبره وقوة تحمله لفواجع الخطوب، لكنه أضاف
سلاح مواجهة جديدا هو البعد الديني متمثلا في توكل المؤمن
على الله واعتماده على حوله وقوته في كل ما يهمه.
ثم عاد إلى الفخر بصحب أماجد اقتحم برفقته أهوال السرى في
مجاهل البيد، فكان دليلهم ومؤمنهم ممن غائلة العطش لمعرفته
الأرض ومظان الماء في مخارمها، كما كان حارسهم ومطعمهم
والمشير بتعريسهم وارتحالهم؛ وفي أثناء ذلك وصف ركابهم
مشبها إياها بالنعام ووصف ناقته هادية الرحال وشبهها
بالظليم ووصف حال رفاقه وقد هداهم إلى الماء فارتووا
ونعموا بالا، فانصرف بعضهم إلى الجدل والحوار وبعضهم إلى
الغناء والبعض الآخر إلى العناية بالمطية؛ وختم هذه اللوحة
بأوبة السفر وقد بلا الشاعر سجيا قومه فازداد بهم
إعجابا.وتنغلق "النفاظة" بثلاثة أبيات في الحكمة والتوجيه
وكأن ابن الطلبه، وقد حلب شطري الدهر وبلا حلوه ومره، محض
ثلاثتها لاستخلاص العبر من تجارب الحياة التي عرض لوحات
ممنها خلال قصيدته. لقد رأى أن "الدهر ليس يبقى على حال"
وعليه فالتجارب المرة لا ينبغي أن تسلم إلى الحزن والجزع
لأنها لاتدوم، كما لا ينبغي الفرح بالنعمة واجتماع الشمل
لأنه لا بقاء لشيء من ذلك ايضا. ومصداق ذلك ما يشاهد منن
انقلاب أحول الناس: فمك فقير حالف الحظ فأصبح ممن ذوي
الثراء، وغني خالفه حظه فافتقر واحتاج.
هكذا فإن ما يمكن ملاحظته من تركيب هذه القصيدة بالنظر إلى
تعدد أغراضها حتى لا نقول بغياب الغرض (الرئيسي) أصلا،
وانفتاح بنيتها حتى كاد بعض الدارسين يرى فيها اندماج
قصيدتين في نفس الإطار الموسيقي كما يظهر من تكرار بعض
عناصر بنية النص، فتبين عدم خضوعها لمخطط مقرر سلفا، وإنما
جاءت، كما لاحظ بلاشير، بالقياس إلى بنية القصيدة العربية
عموما بكل وحدات متتالية تؤلف بينها حركتها المتصلة، هو ما
يمثل الصورة الأقوى تواترا في ديوان ابن الطلبه لدرجة تسمح
باعتبارها أبرز سمات شعره البنائية.
وإذا كان ابن الطلبه قد مارس المعارضة بمعناها الاصطلاحي
مقتصرا على الحد الأدنى من سمات النص المحتذى الذي يسمح له
بالاحتفاظ بالعلاقة الحوارية معه وهو آمن سلبية الوقوع تحت
تأثيره، مبقيا لنفسه أوسع هامش حرية ممكن استطاع توظيفه في
بناء قصائد نافس بها الأقدمين وسعى إلى التفوق عليهم؛ فإنه
اطلاعه الواسع على التراث الشعري القديم واستيعابه له
مكناه من أن يستخلص من سمات نصوص القدماء الأسلوبية
المشتركة نموذجا نظريا ذا قدرة توليدية ساعدته على إنشاء
نصوص تحمل بدرجات متفاوتة سمات ذلك النموذج الأسلوبي.
وهذا الضرب من التعامل مع التراث الذي يظهر في إحالة
السمات الأسلوبية التي اعتمدها اليعقوبي في مختلف مستويات
خطابه الشعري إلى "نموذج[...] منسجم تتجلى عبره صلة النسب
الشرعية بين ابن الطلبه وشعراء الجاهلية"
على أن ممارسة المعارضة الأسلوبية تستلزم جهدا نقديا يمكن
من استخلاص السمات المفيدة في النصوص الأصول وتحويلها إلى
كليات نظرية ذات طاقة توليدية. وهذا ما فعل ابن الطلبه حين
استخلص نموذجه الأسلوبي من التراث الأدبي القديم عن طريق
التصرف في النص الأصل أساسا بالحذف.
ذلك أن ابن الطلبه قد نظم أهم نصوص ديوانه على أساس المعجم
اللغوي العتيق والتشبيه الحسي وبنية القصيدة المركبة
المنفتحة وهي سمات موضحة في القصيدة الجاهلية؛ إلا أنه
بالمقابل حذف، على مستوى المكون الغرضي، عناصر من هذه
القصيدة أهمها الخمر والحرب والخيل وثلاثتها تشترك في
الغياب عن حياة مثقفي الزوايا في عصر الشاعر.
ولم يكن تصرف ابن الطلبه بالحذف قاصرا على المصدر التراثي
لشعره، وإنما امتد الحذف إلى مصدره الثاني ممثلا في الساق
الثقافي والتاريخي الخاص بالشاعر، فنفى من شعره كثيرا من
عناصر الثقافة الإسلامية العالمة.
بذلك تكون معارضة ابن الطلبه الأسلوبية، كما تجلت في
ديوانه، قد قامت على منحيين من التصرف في ما يمكن اعتباره
مصادر شعره: فحذف بمقتضى أولهما العناصر التي لا وجود لها
في حياته من القصيدة الجاهلية؛ وحذف بمقتضى الثاني العناصر
التي لا وجود لها عند الجاهليين من حياته.
قامة المراجع:
ابن الحسن (أحمد): أسلوب محم بن الطلبه اليعقوبي، الجامعة
التونسة، 1986.
ابن الحسن (أحمد): اشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر
الهجري: مساهمة في وصف الأساليب، الطبعة الأولى، نشر جمعية
الدعوة الإسلامية العالية، 1995.
ابن خلدون (عبد الرحمن): المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد
وافي، د. ت.
ابن عاشور (محمد الطاهر): شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام
المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام، الدار العربية
للكتاب، ليبيا، تونس،1978.
ابن محمد سالم بن السيد (عبد الله): المعارضة في الشعر
الموريتاني: مدخل لدراسة الاحتذاء عند شعراء القرن 13هـ،
طبع المعهد التربوي الوطني، نواكشوط، 1995.
ابن محمد ناصر (محمد بباه): ديوان محمد بن الطلبه اليعقوبي
الشنقيطي الموريتاني(تقديم)، نشر أحمد سالك بن محمد الأمين
بن ابوه، نواكشوط 1999
ابن منظور: أخبار أبي نواس، القاهرة، 1924.
الشنقيطي (أحمد ابن الأمين): الوسيط في تراجم أدباء شنقيط،
الطبعة الرابعة، نشر مكتبة الخانجي بمصر ومؤسسة منير
بموريتانيا، 1989.
ولد اباه (محمد المختار): الشعر والشعراء في موريتانيا،
الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1987
|