الفخر في شعر محمد بن الطلبة اليعقوبي
قراءة في المضامين
1 مدخل
نرمي من وراء هذا البحث إلى إنجاز دراسة غرضية تطبيقية
مدارها شعر الفخر من ديوان محمد بن الطلبة اليعقوبي
وعلى الرغم من أن مفهوم الغرض متداول في الدراسات النقدية
على نطاق واسع فإنه ظل يتسم بكثير من الميوعة والغموض ،
خاصة إذا ما تعلق الأمر بالمطولات الشعرية التي تتعدد فيها
وحدات معنوية متمايزة {أو أغراض}، على نحو تتداخل فيه هذه
الموضوعات وتتقارب حظوظها، بحيث يصبح من الصعوبة بمكان
تحديد غرض النص الرئيس وتمييزه عما سواه من المضامين.
وقد دأب بعض النقاد على اعتبار أحد هذه المواضيع،
انطلاقامن مرجحات معينة {سيافية، نقلية، تراتبية،..}، هو
الغرض أو الموضوع الرئيس وما سواه من وحدات معنوية فبسبيل
منه، فكأن الغرض بهذا المعنى مستمد من مدلوله اللغوي:
الغرض "هدف يرمى فيهوفي
مثل هذه النصوص ذات الوحدات المعنوية المتعددة أو ذات
البنية المركبة
تتنزل المدونة الشعرية موضوع هذه
الدراسة، ذلك أن ابن الطلبة لم يخصص لغرض الفخر نصوصا
شعرية مستقلة عن غيرها من الأغراض
وإذا نظرنا إلى الفنون الأدبية عموما نجد أن غرض الفخر من
أكثرها أصالة وأرسخها قدما بما له من وشائج تنيطه بفطرة
الإنسان، وبالنفس في نزوعها الذاتي الدؤوب نحو تضخيم
الصفات الحميدة في الذات، ومحاولة الاستئثار بالخصائص
الحميدة في الذات ، ومحاولة الاستئثار بالخصائص المثلى حسب
العرف الجمعي متنزلا في سياق زماني – مكاني معين.
وقد ظل الفخر في مدونة الشعر العربي القديم معينا لا ينضب،
منه يمتح فحول الشعراء، يتبارون في الإشادة بصفاتهم
النبيلة وأخلاقهم الفاضلة من كرم وعزة نفس ومن إباء ورفعة
في الحسب والنسب ومن شجاعة ونجدة وصبر على النوائب وتحمل
للمشقات، وسائر الخصال المشاعة في مجتمعهم، والتي يعتبر
اكتسابها على نحو متميز مدعاة لذكر وإفشاء وتنويه .
وكما تغنى الشعراء بهذه المفاخر في ذواتهم أسبغوها كذالك
على محيطهم الاجتماعي ممثلا في العشيرة والأجداد والآباء
إذ هي آئلة إلى الشاعر في المحصلة النهائية .
والفخر من هذا المنظور نوع من المدح أو هو المدح نفسه كما
يقول ابن رشيق القيرواني {ت456هـ } "الافتخار هو المدح
نفسه إلا أن الشاعر يخص به نفسه أو قومه"
وإذا كان التباهي بالنفس والتغني بما في الذات من فضائل لا
يستساغ في غير الشعر فإنه"في الشعر غير معيب على الشاعر
وكثيرا ما ورد لفظ الفخر مقرونا بالحماسة إلا أن أغلب
النقاد يميزون بينهما على اعتبار أن الفخر بالبلاء في
المعارك الحربية ووصفها هو الحماسة، وأما لاستئثار
بالمحامد الأخرى من كرم ورفعة محتد ونحوها فهو الفخر أو
الافتخار
بيد أن شدة ترابط وحدات الحقلين في الذاكرة الجمعية لدى
منتجي ومستهلكي التراث الشعري العربي ترابطا يقتضى استحضار
الوحدات المعنوية لأي من السجلين المعجميين باستدعاء
نظيراتها من الحقل الآخر، يحمل على الاعتقاد بتعذر فصلهما
بعضهما عن بعض على مستوى الخريطة الشعرية للنص، على نحو
حاسم لا اشتباه فيه.
ومن هنا يمكن وصف مدونة هذا الغرض عند ابن الطلبة بأن حقل
المعاني الدالة على الفخر هو السائد وأن حقل المعاني
الدالة على الفخر هو السائد وأن حقل المعاني الدالة على
الحماسة خافت الحضور، كما سيتضح خلال موجهة النصوص الشعرية
التي هي عمدتنا الأساسية في هذه الدراسة، ومرجعيتنا
الرئيسية"إذ النص هو الأصل الأول في أي عمل أدبي"
مستفيدين بطبيعة الحال من الأعمال الكثيرة نسبيا المنجزة
حول جوانب مختلفة من شعر الرجل محاورين إياها عند الاقتضاء
ما وسع الجهد.
وأملنا وطيد أن يتيح سفراء هذه المدونة اسظهار خصائصها
ومميزاتها على نحو ينجلي معه حظها من التجديد النظر إلى
عمود القصيدة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام النموذج
المحتذى عند ابن الطلبه، وبالنظر كذلك إلى السياق المحلي
تأثرا وتأثيرا بين المدرسة الأندلسية البديعية لدى الرعيل
الأول من الشعراء الشناقطة كابن رازكه ومحمد اليدالي،
مثلا، وبين الجيل المعاصر للشاعر كمولود بن أحمد الجواد،
وابن الشيخ سيديا وغيرهما
1.2 تأصيل المصطلحات
سبق أن أشرنا في المدخل إلى مفهوم الغرض ودلالاته المختلفة
أما الفخر فقد شاع استعماله في التراث النقدي العربي
بدلالات اصطلاحية مختلفة، لكنها في مجملها مرتكزة على أسس
من معانيه المعجمية التداولية: فمن معاني الفخر "التمدح
بالخصال"،
ويضيف بن منظور {ادعاء العظم والكبر والشرف}
"ونخلة فخور عظيمة الجذع غليظة السعف"
أما في الاصطلاح فيعني التغني بالفضائل والمثل العليا
والتباهي بالسجايا النفسية والصفات القومية، والزهو
بالفعال الطيبة
1-3 المدونة الشعرية
إن حصر مدونة الفخر في الديوان بشكل صارم دقيق يبدو مطلبا
صعب المنال، وذلك بالنظر إلى تضافر عاملين أساسيين:
أولهما أن الشاعر لم يفرد نصوصا أحادية الغرض، وإنما كان
يزجيه ضمن نسيج شعري شمولي ذي بنية غرضية منفتحة تتصاقب
فيها المواضيع يعضد بعضها بعضا أو يرد بعضها بسبب من بعض
كأن يعيش الشاعر لحظة الوقفة الطللية بما تشي به من مظاهر
الفراق والحرمان والخراب فيستدعي من ماضيه لحظات مفعمة
بالمتعة والسعادة فيفخر بذلك الماضي المشرق أيام القوة
والشباب مشيدا بمزايا خلقية أو خلقية تتعلق بذات الشاعر أو
بقومه أو ببعض الوسائل المساعدة كالمطية.
وثانيهما، وهو لصيق بالأول، مرونة الوحدات المعنوية كا هو
واضح من النصين التاليين:
يقول في الجيمية الكبرى
فإما تريني خمر الشيب لمتي |
وأصبحت نضوا عن شباب مبهج |
فيا رب يوم قد رصدت ظعائنا |
بأبطح برث قوز وحشرج |
ظعائن بيض قد غنين بنضرة |
تروق على غض النضير المبهج |
ظعائن ينميها إلى فرع العلى |
لعامر يعلى كل أزهر بلج |
ومن الميمية الكبرى كذالك
{الطويل }
ألا عجبت جمل سفاها وما رأت |
بديئا لشيب بالمفارق معلما |
وقد زعمت أني كبرت وأكبرت |
صباي ولم تنقم لعمرك معظما |
وقد هزئت ما رأتني شاحبا |
وهنت عيها بعد ما كنت مكرما |
ألم تعلمي أن لا غضاضة أن يرى |
كريم ببيضاء المحاجر مغرما |
وأن الجراز العضب يخلق غمده |
ولا عيب إن العيب أن يتكهما |
ولكن سلي عني دخيلي إذا شتوا |
وأخلف ماشيهم ذراعا ومرزما |
ففي هذين النموذجين تناغم أكيد بين عدة مواضيع حيث يهرب
الشاعر من الحاضر الشيخوخة والانكسار والحرمان مشرئبا نحو
أيام الفتاء والتصابي وملاحقة الظعائن، فيستطرد إلى وصف
محاسنهن والاعتداد بانتمائهن إلى العامريين قوم الشاعر رمز
العزة والشرف والوضاءة.
وهكذا يتنزل الفخر في سياق"الدفاع عن شرعية التصابي
تعويضا عن حاضر غير معسف"
ومما يؤكد شدة هذا الترابط اختلاف بعض دارسي شعر ابن
الطلبه بشأن تحديد غرض الميمية الآنفة الذكر، فالرشيد بن
صالح يرى أنه"دستور المكارم في المجتمع"،
وهو حسب دارس آخر "المعارضة"
أما عبد الله بن محمد سالم فيذهب إلى أنه "الغزل لا يخرجها
عنه ما ورد فيها من فخر وحكمة"
أما التداخل بين الفخر والوصف فعلى أشده ففي كثير من نصوص
الديوان المتعلقة بمشاهد الارتحال ووصف المطية يخصصها
السياق للوصف بينما نجد نصوصا أخرى تعالج مواضيع مماثلة هي
في غرض الوصف أدخل ووشائجها به ألصق.
لكننا وبرغم هذا التداخل الحميمي بين الفخر وأغراض عديدة
أخرى أمكننا تصييف حوالي 226بيتا في غرض الفخر وهو ما يمثل
نسبة 15%
تقريبا من أبيات الديوان، نسبة تحملنا على الاعتقاد إن غرض
الفخر غرض رئيس في شعر ابن الطلبه، وأنه مادة للبحث
والدراسة غنية.
1 .4 .المضامين الفخرية عند ابن الطلبة
يمكن تصنيف شعر الفخر عند ابن الطلبة في الفخر الذاتي
عموما "وهو ما دار حول الشاعر نفسه أو حول آبائه أو أجداده
وداخل هذا الإطار العام يتسنى تقسيم فخر ابن الطلبه إلى
محورين متمايزين، وإن كانا مترابطين قوي ارتباط في ذات
الوقت هما:فخر شخصي يرتكز حول ذات الشاعر، فخر قومي مداره
على قبيلته بعامة وقد يخصص منها
ولكل منهما مضامينه ومجلاته.
1.4.1 الفخر الشخصي
يتبين من مدونة فخر الشاعر أنه ظل وفيا لواقعه، مستمسكا
بحياة مجتمعه ومحيطه، دون أن تستحوذ علية استحواذا القيم
السائدة في الشعر الجاهلي نموذجه الفني المحتذى، فهو في
فخره بنفسه {لم يفخر بالشجاعة والغزو والفتك ولا بشرب
الخمر والاستهتار بالملذات مع أن شعراء الجاهلية كانوا
يفخرون بذلك كثيرا، وإما فخر بالفضائل السائدة في مجتمعه
وقد استطعنا – على الرغم من تداخل هذه القيم في شعر الرجل
ومخامرة بعضها بعضا – استخراج معايير الفخرية الذاتية
التالية :
1-4-1-1.السيادة والقيادة
تجسد هذه القيمة في صور أبرزها وأفشاها تصدر الشاعر مركز
الريادة والاستئثار بها أوقات الشدة بحيث يكون المنقذ
القائد إلى النجاة، والقطب الفاعل دون منازع. وقد تكررت
هذه القيمة في نصوص عديدة من شعره لعل أكثرها اكتمالا ما
ورد في اللامية الكبرى
{خفيف}
وفتو شم العرانين أقبلـــ |
ــــتهم هبة السموم عجال |
بت أسقيهم بمطو سرى الليـــــــ |
ــل كؤوس الكرى بأجرد خال |
بمزاد لكل هوجاء مرت |
ليس فيه لغيرها من مجال |
فسروا ما سروا فلما تقضر الـــ |
ــليل أو كاد عرسوا في نعال |
{...} حول خوض رمى بها الأرض حتى |
لا تشكى الدؤوب بعد الكلال |
بت أكلاهم وأسعى عليهم |
بشواء مضهب غير آل |
ثم نبهتهم فلأيا أفاقوا |
من لغوب قد مسهم واعتمال |
وتراني كذاك إن كل صحبي |
في اعتمال لهم بغير اعتلاب |
فملحوظات النص وعلاقاته النحوية تكرس الشاعر قطب الجذب
ومركز الثقل دون منازع، فهو المسند إليه في نقاط الارتكاز
المعنوي { أقبلتهم هبة السموم، بت أسقيهم، ....} في منطلق
الرحلة ثم {بت أكلاهم، وأسعى عليهم، وتراني كذاك} أثناءها.
فمناط الفخر في هذا المقطع قيادة الشاعر صحبه في ذلك الجو
الصحراوي المكفهر حتى إذا اشتد لفح السموم وخفيت ملاحب
الأرض القفر فاضطر القوم تحت وطأة سوء المناخ وانعدام
الموارد المائية إلى موصلة التغليس بعد التهجير، فدب الوهن
في مطاياهم فعرسوا وقد أضناهم النصب واستبد بهم النعاس
يتهافتون من ونى و من سغب، في مثل هذه اللحظة يضطلع الشاعر
بالمسؤولية فينهض نشطا يدير عليهم نضيج الشواء لا هم
لديه سوى إسعادهم ولاعتناء بهم.
مشهد مطرد في شعره قائم على انه قائد الرحلة، سيد الصحب
وخادمهم النشط والعين الساهرة عليهم كلما اشتدت بهم كروب
أو داهمتهم خطوب
1-4-1-2. تحمل المشاق لاكتساب المجد
إن فخر الشاعر بتحمل الصعاب وارتكاب المخاطر لإدراك مجد أو
كسب محمدة قوي الصلة بالنقطة السابقة، ففي ذلك المحيط
الصحراوي ذي المكونات المتحركة تكون المهام الكبيرة تقتضي
مكابدة أسفار شاقة، وقد صور شعر الرجل نماذج من تلك المشاق
مفتخر بها وكان يعد العدة لها بانتفاء مطاياه بحيث تستأثر
بكل المواصفات الحميدة على نحو به تصبح موضوعا للمفاخرة
والمغالبة وكأنها عنصر مساعد ضروري مكمل لشخصية البطل
{طويل}
كأني لم أركب للهو ولم أنل |
من البيض وصلا آمنا أن يصرما |
ولم أعمل العيس المراسيل بالفلا |
لأبني مجدا ركنه قد تهدما |
وكثيرا ما استطرد في فخره إلى وصف ركائبه منوها بأصالتها،
مشبها إياها بعناصر من محيطه الطبيعي مما يضفي عليها من
القوة السرعة ما يجعلها تتبوأ نفس المكانة القيادية لربها
{خفيف}
وهدت بي الرحال عنس زفوف |
سهوة المشي لاقح عن حيال |
عنتريس مهي الزمام سلوف |
ناجلاها من الهجان الغوالي |
فكأني على هجف مزف |
نافر جد رائحا في انجفال |
1-4-1-3. البيان وفصل الخطاب
لا غرو أن يكون قوة البيان وفصل الخطاب من المزايا
المحمودة في المجتمع الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري،
خاصة لدى فئة الزوايا، حيث المناظرات العلمية سجال، وحيث
تعتبر الغلبة فيها شأنا عظيما ومفخرة دونها كل المفاخر.
لقد ظلت هذه المناورات العلمية تشكل جزءا أساسيا من تكوين
الطالب المحضري، بل وشيخه كذلك فهما معرضان للمساءلة
والامتحان دأبا في أي من الفنون المتداولة في ذلك المحيط
من نوازل فقهية أو قضايا عقدية أو كلامية كما قد تكون ذات
صلة باللغة العربية وآدابها.
وقد تردد في شعر ابن الطلبه صدى هذه المناظرات فافتخر
بالانتصار فيها وبحسن بيانه، وبجودة صناعته الشعرية، وذلك
ضمن النصين التاليين
{طويل}
كأني لم أركب للهو ولم أنل |
من البيض وصلا آمنا أن يصرما |
ولم أردد الألوى الألد كانه |
أميم كما عنى المعنى المسدما |
ولم أفحم الخنذيذ في يوم مجلس |
من الناس مشهود وماكان مفحما |
أتى ثانيا من جيده متخمطا |
يمج لغاما مستطيرا وبلغما |
فصد صدود المستكين كأنه |
من الذل محسوم الخصاء وأحجما |
فالصورة المستوحاة من المعركة تعكس مدى شراستها وعنفها،
فوقعها لا يقل شأنا وتأثيرا عن مخلفات المعركة الحربية
وآثارها الجسدية الشنيعة كالشجة البالغة الخطر، الباعثة
على الهذيان وغياب الوعي، وما أشد المفارقة بين مشهد الخصم
مبتدأ المعركة وهو في عنفوان قوته وتحديه، يتطاير شرره،
يرعد ويبرق، وبين صورته منتهاها وقد أفحم فتراجع مستكينا
منهار الكبرياء، راكنا إلى الحضيض، أما النص الثاني فمقطع
من قصيدة للشاعر في مدح الصعيدي، فيه يشيد بعلو كعبه في
القريض وبالمكانة التي يبوئها ممدوحه، مهما عز هذا المديح
واعتاض على غيره من الشعراء المفلقين، معتبرا شعره هدية
ثمينة تليق بالشرفاء، تضاهي غيرها من الهدايا المادية
{كامل}
بمحمد بن السعد الارضى نجل عبـــ |
ــد الله ذي الخلق العراض الأطول |
إن لا يكن مالي بآتيه فلي |
أسيى الهدايا بالمديح الأجمل |
ولسوف يحبوه ثنائي مقول |
صنع الشباة مطبق للمفصل |
من ذا يبلغه وكم من دونه |
زوراء تنبو بالزور العيهل |
مني ثناء صادقا ولخير ما |
تحوه قيل ليس بالمقول |
فلأمدحنك وإن رأيت مديحكم |
أعيا مقاول كل قرم مقول |
1-4-1-4. الكرم والإنفاق
إن ظروف الحياة البدوية الصحراوية تتسم غالبا بالقساوة
ونذرة الأمطار وعدم انتظامها، فتأخر المطر أو احتباسه قد
تنجم عنه لزبات مهلكة جراءها تتعذر أسباب الرزق وتحوق
بالناس المجاعات ويستشري بينهم ضنك العيش، فيلوذ المقلون
والعفاة بسادة القوم وكرمائهم فيحسنون إليهم ويقضون خلتهم،
فيكون الكرم الإنفاق والاعتناء بالجار والضيف في مثل هذه
السياقات مفخرة تذكر لأصحابها بالشكر والتقدير والإعجاب،
وقد عرف عن ابن الطلبة السخاء والكرم والمسارعة إلى
المروءات وفعل الخيرات
وقد عكس شعره نمادج من هذا السلوك في فخره الذاتي وإن كان
أكثر تواترا في فخره القومي، إذ يشرك معه في مثل هذه
المحامد عشيرته العامريين أو صحبه عموما. ومن فخره الذاتي
بذلك
{طويل}
ولكن سلي عني دخيلي إذا شتوا |
وأخلف ماشيهم ذراعا ومرزما |
{خفيف}
ولهيف نفست عنه فأمسى |
جذلا عند بكء عطف الموالي |
وسنستعرض نماذج من تلك القيم في المحور الثاني .
1-4-1-5. اللهو المقتصد
في الديوان مقاطع شعرية كثيرة يعتد فيها الشاعر بلحظات
ممتعة من عهد الشباب، يشي بأن الحظوة لدى النساء والقدرة
على استمالتهن تعتبر من معايير الفتوة في ذلك المجتمع، وأن
تعاطي الغناء بين الفتيان مزية يسمح بها العرف الجمعي
شائعة على نطاق واسع. فقد كان للشاعر عصابة مدار سمرها على
اللهو والغناء وسماع الأشعار واعتبار ذلك قيمة اجتماعية
مرموقة يرتاده علية القوم من الجنسين، دوما اعتراض أو
تشنيع ، يقول في العينية الطولى
{طويل}
ولا كمغاني ذي المحارة أربع |
فمن يأتنافيهن يرء ويسمع |
يرى البيض كالآرام من كل خدلة |
ضنون بمعسول الحديث المقطع |
ويسمع كما شاء المسامع من فتى |
خبير بتحبير الغناء المرجع |
إذا رجع التغريد ريعت لصوته |
روائع صينت في الحجال الممنع |
ويبدو ان لتداول الغناء بين الصحاب دورا تعليميا أساسيا
بما يعين عليه من سهر لتذليل عويصات العلوم ومراجعة
مستغلقاتها
:
{خفيف}
وصحاب مثل المصابيح في الدجـــــــ |
ـــــية نازعتهم سهاد الليالي |
بنشيد ومزهر وعويص |
من علوم الهدى عزيز المنال |
فتية فتية بهاليل شم |
همهم في ارتقاء شم المعالي |
أما استمالة النساء والحظوة لديهن فقد برزت في شعر الرجل
قيمة فخرية تحمل ما تحمل من دلالة على علو المكانة
الاجتماعية وحيازة خصال الفتوة، فلا يكاد يفخر في نصوصه
الشعرية إلا واتخذ من هذا النهج سبيلا:
{طويل}
كأني لم أركب للهو لم أنل |
من البيض وصلا آمنا أن يصرما |
ولم أتلاف الظعن قصرا بحاجر |
على إثر حي مد سيرا وأجذما |
ويعرج على نفس الموضوع في لاميته مشيدا بهذه الحظوة وتلك
المكانة التي كان يحظى بها لديهن فما كان بالمقلي ولا
بالمفرك
{خفيف}
قد أراني والبيض غير قوال |
لخلالى وما مللن وصالي |
فلقد كنت للأوانس فرعا |
عن يميني يرعن لي وشمالي |
1-4-2. الفخر القومي
لعل أهم نقطة ارتكاز في فخر ابن الطلبة فخره بقومه
العامريين
متخذا من أخلاقهم النموذج الأعلى في ذالك المجتمع، مفردا
إياهم بالصدارة والرياسة وعلو المكانة
{خفيف}
ببهاليل كالمصاعب زهر |
من كهول جحاجح وشباب |
من بني عامر هم القوم كل الـــــ |
ــــقوم والرأس والذرى والروابي |
والمضامين الفخرية عند شاعرنا واقعية في غالبها وإن كانت
المعاني الفخرية والمدحية عموما تتوسل بالمبالغة والادعاء.
ويمكن إرجاع أهم هذه المضامين إلى الوحدات المعنوية
التالية
1-4-2-1. كرم المحتد
افتخر ابن الطلبة بشرف أرومة قومه وبانتمائهم إلى جعفر بن
أبي طالب ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم انتماء له
دلالته الخاصة في المجتمع الشنقيطي آنئذ
{طويل}
سما نجل عبد الله سام بمجدكم |
إلى باذخ ما إن يرام بمطلع |
إلى جعفر حب النبي وابن عمه |
هو الفحل من يكف مساعيه يظلع |
ونلاحظ اعتزازه بهذا الانتماء القبلي يتخد ثلاثة أبعاد:
-
اعتزاز بالقبيلة ذو بعد شمولي عام يطلق عليها فيه إحدى
التسميات التي كانت عرفت بها خلال فترات معينة من تاريخها
كالعامريين، أو بني عامر، أو آل أبي موسى، أو آل يعقوب
ونحوها منوها بأنسابها الرفيعة وأحسابها المصونة
{طويل}
ترى من سونا يدعينا ولا نرى |
لغير أبي موسى لعمرك ندعي |
بني عامر أحسابكم لا تضيعوا |
من احسابكم ما كان غير مضيع |
-
اعتداد الشاعر بالصحاب وبانتمائهم إلى العامريين قوم الرجل
كقيمة اجتماعية إلى جانب القيم الأخلاقية أو الخلقية
الحميدة فيهم:
وفتيان صدق قد دعوت فبادروا |
لمحمدة تعلو على كل بيع |
من آل أبي موسى بن يعلى ابن عامر |
إذا شهدوا زانوك في كل مجمع |
بيد أنه في فخره بشرف الصحاب، وكرم محتدهم قد يكتفي برفع
نسبهم إلى البيت النبوي أو الهاشمي دون التركيز على البعد
القبلي الأدنى
{طويل}
ولله عينا من رأى مثل صحبتي |
يجوما أذا الليل اكفهرت غياطله |
معي كل وضاح الجبين سميدع |
ثقيل تباريه خفيف ذلاذله |
نوزع عنا هول كل دجنة |
وخطب مخوف الهول جم دغاوله |
بأروع ماضي العزم من آل هاشم |
أشم كنصل السيف حو شمائله |
نماه النبي والحسين ابن بنته |
إلى باذخ يعلو على كل من يطاوله |
-
انتماء قبلي إطاره النسيب: جدير بالذكر أن أغلب غزل ابن
الطلبة مقروض في نسوة ينتمين إلى قبيلته، فكان حفيا بهذا
الانتماء يصدع به معيارا جذريا يضاهي محاسنهن الجسدية،
وأخلاقهن النبيلة
{طويل}
ظعائن بيض قد غنين بنضرة |
تروق على غض النضير المبهج |
ظعائن ينميها إلى فرع العلا |
لعامر يعلى كل أزهر أبلج |
ظعائن لم تألف عصيدا ولم تبت |
سواهر ليل الجرجس المتهزج |
ولكن غذاها رسل عوذ بهازر |
مورثة من كل كوماء ضمعج |
معودة عقرا وبذلا كرامها |
لضيف وعاف من مقل وملفج |
ومن مثل قوله في الميمية الطولى يتباهى بجمعهن بين باهر
الحسن والجمال وبين سامق الحسب الأصيل
{طويل}
هجائن بيض من عقائل عامر |
جمعن إلى الأحساب حسنا وميسما |
وقد يفخر بانتمائهن إلى بطون معينة منبثقة من القبيلة
الكبرى في بعدها الشمولي
{خفيف}
يا لقومي تقتلت لي حتى |
قتلتني ولم تبال خبالي |
في حمول غدون منتجعات |
ساحة الكرب بعد رعي الرمال |
ظعن من ظباء أبناء موسى |
وظباء الأعمام والأخوال |
ولعل خلفية تضييفه الإطار الاجتماعي للمتغزل بهن هنا
واقعية الشاعر في تعبيره عن حياته المعيشة في تعدها
الاجتماعي وحتى المكاني {تيرس} وما يضيفه ذالك على اللوحة
من جمالية متعددة الأبعاد ويؤكد هذا ما ذهب إليه المرحوم
أحمد ولد الحسن من التزام بن الطلبة بواقع حياته في
شعره"من خلال محاولته جعل الشعر العربي الجميل أداة تعبير
عن حياة رجل من بني يعقوب في تيرس في أوائل القرن الثالث
عشر الهجري دون الإخلال بجمالية هذا الشعر نفسه"
1-4-2-2. الكرم والإحسان إلى الآخر
الإحسان إلى العفاة والمحتاجين ومد اليد بالمعروف إلى
الجار وإعزازه والاعتناء به فيم أصيلة يزخر بها الشعر
العربي القديم، وقد افتخر ابن الطلبة بهذه الخصال في قومه
مبالغا في تحليه بها ومسارعتهم إليها كدالك في نصوص عديدة
من شعره الفخري، فهم {في اللامية الطولى} خير حي عند
المناضلة بالكرم، وهم طلبة المجتدي وملاذ المستغيث، مثلهم
في الصبر على ذلك وتوخيه مثل عتاق الجياد تزداد سرعتها
وتشتد كلما طال الشوط ودب الوهن والكلال إلى عيرها في
الميدان
{خفيف}
حي يعقوب إنهم خير حي |
إذ تسامى الكرام عند النضال |
من يرمهم يجدهم حي صدق |
أي حي عرندس ذي طلال |
من جدهم على الحوادث يعرف |
كيف تعفو الكرام عند التبالي |
من دعاهم لكشف ضراء يغرف |
عند عض المزمان أربى السجال |
فهم كالجياد تعفو إذا ما |
نفق الراكضات عند الكلال |
أما في بائيته الفخرية فيشد بأمولهم المعدة للإنفاق،
وبجفانهم المترعات وبيوتهم الفسيحة المهيأة للاستقبال
{خفيف}
هضبة الخيل أين حي حلال |
عمروا منك كل مغنى خراب |
بنداهم، شم المناخر صيد |
محمد جارهم عزيز الجناب |
وقباب مثل الهضاب رحاب |
وجفان قد أترعت كالجوابي |
ودثور من الهجان المهارى |
وعناجيج مترصات هضاب |
معتدات لكل يوم نوال |
فالجات بكل يوم غلاب |
1-4-2-3. الذب عن الدين والتخلق بأخلاقه
إن حضور البعد الديني في فخر ابن الطلبه يضفي على هذا
الفخر نوعا من الخصوصية والتميز ينآى به عن شبهة محاكاة
مضامين الفخر في الشعر الجاهلي، وخاصة بإشاراته إلى أحداث
تاريخية محلية كمصارع قومه في الحرب المعروفة بحرب "شرببه"
ودفاعهم المستميت عن الدين الإسلامي، وتمسكهم بنهجه القويم
معترفا ضمنا بهزيمتهم في تلك الحرب، غير أن البقية الباقية
منهم أبية صامدة لا تزعزعها النكبات مهما فظعت واشتدت
{الطويل}
على حافظ من عهد شرببه حافظوا |
على ملكه مثل المجرة مهيع |
الآباء صدق ورثتهم جدودهم |
مساعي ما من رامها بالمطوع |
وأبقى مراس الحرب منهم بقية |
بحمد الإله لا تلين لمفظع |
حلومهم أحلام عاد ودينهم |
بنوه على الأس القويم الممنع |
بنوه على نهج النبي محمد |
فيالك من نهج هدى متتبع |
هم شيدوا أركانه برماحهم |
فما مال حتى صرعوا كل مصرع |
ومن الفخر ذي المنحى الديني وصفه قومة بالورع والتقوى
والحفاظ على الأعراض نقية ناصعة البياض، والتأدب بالآداب
الحميدة، لا تستخفهم النعماء ولا يستبد بهم الحزن جراء
ضراء مستهم
{خفيف}
دينهم حفظ دينهم وعلاهم |
وعلوم الكتاب والآداب |
لا هم يفرحون للخير إن مس |
ولا يجزعون عند المصاب |
وفي الجيمية الطولى يبرز الشاعر التقوى ونقاء العرض فيمتين
فخريتين إلى جانب غيرهما من القيم النبيلة الأخرى كالبذل
والأصالة ونحوها
{الطويل}
وقد أصحب القوم الكريم نجارهم |
وصيمهم من كل أروع معنج |
يحوط المداعي والمساعي مرزإ |
تقي نقي العرض غير مزلج |
عليه قبول يغمر الحي سيبه |
إذا لم يكن في الحي ملجا لملتجي |
1-4-2-4.صفات خلقية حميدة
على الرغم من تركيز الشاعر في فخره القومي على الجوانب
المنعوية والأخلاقية على نحو ما مر بنا، فإنه لم يهمل
الجانب المادي إهمالا ، فقد أشاد بصفات خلقية حميدة في
قومه كالصيد والشمم والوضاءة:
{خفيف}
أين حي غنوا بسفحك دهرا |
محسني حرص رفعة الأحساب |
بنداهم شم الماخر صيد |
محمد جارهم عزيز الجناب |
ببهاليل كالمصاعب زهر |
من كهول جحاجح وشباب |
وتتكرر عنده الصفات ذاتها بل مع ذات الملفوظات تقريبا
{خفيف}
نتقي سورة الهموم بشرخ |
من شباب تمده غلواء |
في فتو شم المناخر صيد |
واجد من يزورهم ما يشاء |
1-5. الفخر عند ابن الطلبة: ظواهره وأبعاده
يعتبر التكرار أو الإطناب من مميزات الخطاب الشعري
ويعد التناص بمختلف مشمولاته بما يحتوي من تضمين وإحالة
وسرقات منهجا سالكا لا مندوحة عنه فيه.
وقد تواتر معظم دارسي شعر الرجل على تأثره بشعراء الجاهلية
وبعض من تأثر بهم من شعراء صدر الإسلام.
ونحن إذ ننطلق من وجود هذا التأثر باعتباره مسلمة أو فرضية
لها ما يسوغها فإننا سنحاول استكناه جلية أمره، مركزين على
الجوانب التي بها مشغلنا وهي المضامين.
صحيح أن المعاني مشتركة مشاعة كما توتر عليه نقدتنا منذ
الجاحظ، لكن اللمسة الفنية للشاعر والخصوصية السياقية قد
تمنح النص مستوى من العدول وملتمسا للانزياح عما هو مألوف
متداول، إضافة إلى ما يقع من تجديد وتجاوز عن طريق الأداء
الفني لهذه المعاني أو بحسب "توخي معاني النحو في الكلم
ووجوهه التي هي محصول النظم" وفق مذهب عبد القاهر الجرجاني
ثم إن السابق إلى المعنى لا يكتسب خطابه الفضل ولا يحوز
المزية لمجرد الأقدمية، كما لا يحط من إنتاج متأخر تأخره
الزمني:"إذ ليس لقدم العهد يفضل الفائل ولا لحدثان عهد
يهتضم المصيب ولكن يعطي كل ما يستحق"
واستئناسا بهذه المعطيات فقد أثارت انتباهنا ظواهر بارزة
غب استقرائنا لمضامين الفخر عند ابن الطلبة، تعكس بجلاء
صدقه الفني وارتباطه الحميم بواقعه الاجتماعي وببيئته
البدوية الصحراوية، بمحيطها الحيوي والجامد تعبيرا
وتصويرا، ظواهر نجملها في التجليات التالية:
1-5-1 الطابع البدوي الصحراوي
لا غرو أن يعطى الطابع البدوي الصحراوي على شعر الرجل
عموما وفي غرض الفخر خصوصا، فقد أسلفنا أن المحيط الذي عاش
فيه محيط بدوي صحراوي، وأن التراث الثقافي الذي يمتح منه
والنموذج الشعري المحتذى لديه تغلب عليهما البداوة كذلك،
ونعني به الشعر الجاهلي وأشعار المدرسة البدوية بزعامة ذي
الرمة والراعي النميري والعجاج وابنه رؤبة، ومن دار في
فلكهم من شعراء صدر الإسلام، فقد اتخذ الشاعر من محيطه
موضوعا وقالبا فنيا لسكب تجربته الشعرية وإثرائها: فتحدث
عن مكوناته المختلفة وظواهره البارزة فوصف من حيواناته
ونباتاته وجباله وسحبه وأمطاره، وعن قاطنيه ومرابعهم
وآثارهم كما صور بدقة مشاهد اصطفاها من الصراعات التي تنشأ
بين هذه العناصر أو تلك.
لكن ما يهمنا هنا – قبل غيره – تجليات هذا الطابع باعتباره
أداة فنية موظفة للتعبير عن مضمون آخر متعلق بالفخر. فمن
مظاهر استغلاله لهذا المحيط استدعاؤه إياه في تشبيهاته ذات
الطابع الحسي غالبا، فإذا افتخر، مثلا، بعتاقة قومه وكرم
أرومتهم شبههم بالمصاعب وهي الجمال تترك للفحلة لكرمها
{خفيف}
ببهاليل كالمصاعب زهر |
من كهول جحاجح وشباب |
أما نقيض المصعب فهو المسدم وهو الذي شبه به خصمه المندحر،
وكأنه يعاني الوجاء
ولم أردد الألوى الألد كأنه |
أميم كما عنى المعني المسدما |
فصد صدود المستكين كأنه |
من الذل محسوم الخصاء وأحجما |
وفي فخره بقومه يشبه تزايد عطاياهم عند الشدائد بعتاق
الخيل تزداد قوة ونشاطا كلما كل غيرها وأعيا
فهم كالجياد تعفو إذا ما |
نفق الراكضات عند الكلال |
وكثيرا ما فخر باعتسافه مفاوز الصحراء وباهتدائه في
متاهاتها، يقتاد صحبه إلى غامض الأوشال لا يهتدي إليها
غيره.
فمن كل ذلك نتبين طغيان الطابع البدوي الصحراوي مضمونا
شعريا ووسيلة تعبر. ومثل هذا الطابع البيئي يزخر به الشعر
الجاهلي وخاصة المدونات التي يتناص معها شعر ابن الطلبة
تناصا أكيدا لا غبار عليه كالقصائد التي عارضها والنصوص
التي اقتباس منها.
إلا أن تماثل البيئتين الجاهلية والشنقيطية على عهد الرجل
تماثلا شديدا يقلل من شأن المسلمة التي كنا انطلقنا منها
آنفا، ويخفف من وطأة فرضيات التأثر بيد أنه في الخطاب
الشعر لا مناص من تناص..
1-
5 -2. البعد الديني
إن حضور السجل الديني في فخر ابن الطلبه – على محدوديته
النسبة – مرجح أكيد لارتباط الرجل بواقعه وبمادئه وبمثله،
فمهما تطاول في فخره وأبدأ فيه وأعاد لا بد أن ينيب إلى
الله في النهاية معتصما بجبله معترفا بالقوة الأقوى فيشده
إيمانه إلى الاستعانة بالله والاتكال عليه
:
غير أني على الحوادث جلد |
لا أبالي من الخطوب التوالي |
كلما هجنني أصول عليها |
باعتمادي على العلي واتكالي |
حسبي الله أن بالله مسعا |
ي وحولي وقوتي وصيالي |
ثم إن المحافظة على الدين الإسلامي قيمة فخرية أشاد بها
الشاعر في قومه من العامريين وفي صحابه كذلك.
ومن المعروف عن الشاعر توجهه الديني الإصلاحي الداعي إلى
تنصيب إمام للمسلمين وحمل السلاح دفاعا عن الدين الإسلام
ونهوضا بأمر الجهاد
1-5-3. الطابع المحلي
نعني بالطابع المحلي السمات الفخرية التي تحمل خصوصيات
مميزة ذات بعد محلي. فالفخر بالكرم والصبر والتجلد أمام
النوائب ونحوها قيم عمومية صالحة لكل زمان ومكان لكنها قد
تستمد خصوصيتها من ارتباطها بأطر معينة، تحمل بصمات مميزة،
ففخر ابن الطلبة في بائيته مثلا سكبه في إطار مكاني -
زماني محدد، فهو خطاب إطاره المكاني مرابع قوم الشاعر حول
هضبة الخيل {تندكمارين} وحدوده الزمانية لجظات اجتماع
الشمل والتمتع بريق العيش أيام طاب المقام بتلك المضارب
هضبة الخيل أين حي حلال |
عمروا منك كل مغنى خراب |
أين حي غنو بسفحك دهرا |
محسني رفعة الأحساب |
ثم إنه في فخره ذي الطابع الديني اتخذ من السياق المحلي
الخاص الإطار المعياري والمرجعية الأساس للقيم الفخرية
وللدعوة الإصلاحية في بعدها المتعلق بتنقية الدين من البدع
الدخيلة وبالدفاع عنه في مواجهة النصارى كما نوه بحسن بلاء
قومه في شربب بما يحمله ذلك الحدث من دلالة محلية خاصة.
1-5-4.الوضوح والواقعية
تتسم المضامين الفخرية عند ابن الطلبة بالوضوح وعدم
التعقيد، فصورة مستمدة من بيئته البدوية الصحراوية المتسمة
باتساع الفضاء وامتداد الرؤى في كل أفق، وبالبساطة
والوضوح، وهو في تعبيره عن هذه المضامين لايلجأ إلى
التعقيد الفني أو المعنوي، ولا إلى التفلسف والرطانة
المنطقية أو الكلامية.
وقد تقاسم شعره الفخري سجلان معجميان بارزان: سجل جاهلي
مستمد من تراث لغوي معجمي أهم مرجعياته القاموس وأشعار
الجاهليين ونوابغ من العهد الإسلامي، وسجل إسلامي مستمد من
التراث الإسلامي عموما ومن الوسط الاجتماعي للرجل، وما
يزخر به من مخاضر وما يدور في تلك الرحاب من مناظرات علمية
ذات صدى واسع .
ومن مظاهر الواقعية لديه عدم فخره بأمور غير معروفة عنه
ولا عن قومه، وتجاوزه الرقيب الجمعي أحيانا في حدود من
السكينة والوقار كاستطراده إلى سرد بعض المغامرات العاطفية
وبوجه بتعاطي الغناء وسهرات السمر واللهو في ذلك الوسط
الاجتماعي المحافظ.
1-5-5. بعث القديم في بعده الفني والجمالي
لا شك أنت ابن الطلبة يتصدر هرم ما اصطلح على تسميته "
مدرسة البعث" أو "الإحياء" وإن لم يسجل له ذلك بعد في
دستور تاريخ الأدب العربي رغم الدعوات النادية بذلك من
منابر متعددة.
ولئن كانت الظواهر التي استوقفتنا أعلاه لا تكرس شعر الرجل
"نسخة طبق الأصل من الشعر الجاهلي
فمن الأكيد أنه "قد لاءم بين سجله الجاهلي المتعث وبين
أغراض شعره ومعانيه فتمحض في مسعا متكامل منسجم قوامه
إحياء القصيدة الجاهلية معجما ومعاني وأغراضا"
ثم إنه بالإضافة إلى السبق التاريخي المحقق لابن الطلبة
ومدرسته الإحيائية الصحراوية كان قصارى تجديد مدرسة البعث
المصرية ان {استوحت الجو الموسيقي للشعر القديم دون أن
تعيس جوه المعنوي"
أما ابن الطلبه ومن على شاكلته فكن بعثهم القديم ذا بعد
اجتماعي وما نفضي إليه من إدراك جمالي باعتبار أن الأدب
عموما "محاكاة للحياة "، أو "هو مؤسسة اجتماعية أداته
اللغة"
أما الشعر فمن معاييره أن يحقق إدراكا جماليا،
وهو ما حرصت عليه هذه المدرسة الصحراوية.
وإذا نظرنا إلى فخر ابن الطلبه في سياقه الإقليمي نجد أن
مدونة الفخر لدى الرعيل الأول السابق عليه كابن رازكه
ومحمد اليدالي أضأل كما، ومعانيه الفرعية أقل تنوعا . فعلى
الرغم من أن محقق ديوان بن رازكه لم يذكر غرض الفخر من بين
أغراضه الشعرية
فالمنقب في الديوان واجد لا محالة
مقاطع يمكن تصنيفها في غرض الفخر،
يشيد الشاعر في بعضها بمعارفه وانكبابه على العلوم ، وفي
بعض بجودة صناعته الشعرية معلنا توجه النمط الأندلسي
البديعي
أما محمد اليدالي ففخره أكثر من سابقه وأغنى مادة، فقد
توسع في فخره بشعره وبمناقب قومه ومناقب بني ديمان،
إلى أن الطابع الغالب على شعر هذا الرعيل الأول ومعظم
شعراء الجيل المعاصر لابن الطلبة هو الطابع البديعي الذي
لا تخلو صنعته من تكلف المحسنات البديعية أحيانا .
1-6- الخاتمة
بعد النظر في مضامين الفخر عند ابن الطلبه في بنيتها
السطحية وفي تجلياتها المظهرية حري بنا أن ننظر إليها في
بنيتها العميقة حيث تتضافر عدة معطيات تسمح بقراءة هذا
الفخر ضمن صراع الزمن حيث الإنسان يحاول التغلب على مظاهر
الفناء والخراب .
ولعل أقوى هذه المعطيات التباين الشديد بين زمن السرد وزمن
الحدث في هذه المدونة، فزمن السرد يتسم غالبا بالسلبية
كالشيخوخة بملامحها المختلفة من نحول جسم وإقبال مشيب وما
ينجر عن ذلك من صدود حبيب ومن حرمان، وقد يتخذ هذا البعد
السلبي مظهر خراب الديار وإقفارها من الأهل والأحبة
واستحالتها أماكن موحشة لا مظهر للحياة فيها.
ويقابل هذه الصورة زمن الحدث وهي لحظات سعيدة يستدعيها
الشاعر وكأنه يفخر بها في حين أنها أبه ما تكون بصرخة رفض
واحتجاج يشهرها بتحد في وجه حاضر مأساوي آئل إلى الخراب
والاضمحلال ثم الموت . فزمن السرد لديه مؤسس دوما على
اللحظة الآتية
{طويل}
فإما تريني خمر الشيب لمتي |
وأصبحت نضوا عن شباب مبهج |
فيا رب يوم قد رصدت ظعائنا |
بأبطح برث بين قوز وحشرج |
وقوله في الطائية وقد ضاق ذرعا بالمشيب وتأثرات كر
الجديدين البادية عليه
{كامل}
فإما تريني قل غرب شبيبتي |
كر الملا بتلاعب وتعاط |
فلقد أروح معديا عيرانة |
غلباء ذات تشذر وحطاط |
تخدي بأزوال كريم نجعهم |
ليسوا بأوباش ولا أشراط |
وفي العينية الطولى ينتقل من الإحساس بوطأة الزمن في بعدها
الذاتي إلى الإحساس بها خلال بصمات الزمن الدامغة مفارق
صحبه وأترابه
فإن يك نسر الشيب يوما عدا على |
غرابين هام من لداتي وقع |
وأضحى زلال للهو رنقا وأصبحت |
قلاص التصابي قد أنيخت بجعجع |
فيا رب يوم قد أدوت لربرب |
هجائن أشباه المها غير خرع |
ثم يسترسل في فخره على هذا النحو .
أما الطرف الثاني من المعادلة فيحيل إلى زمن الحدث
ومؤشراته لفظية صريحة كذلك {فيارب يوم – فلقد... – كأني لم
...ولم ...} في إحالتها على المضي من خلال صيغ الأفعال
الماضوية أو استعمال أدوات تحمل في ذاتها دلالة الزمن
الدابر.
وهكذا نرى أن معظم النصوص الفخرية عند ابن الطلبة تتنزل في
محور الصراع الأزلي بين الإنسان يدفعه تفكيره إلى الشعور
بحتمية الفناء، فتصدر عنه ردود أفعال معينة، وبين الزمن في
سيرورته القاهرة أبدا.
بيد أننا لانعدم – مع تدقيق وتلطف – لحظات فخرية لديه،
يتناغم المزمنان فتضيق لذلك مساحة الإسقاط. وعلى الرغم من
بعد الشقة الزمنية بين اللحظتين فإن ترابطهما على مستوى
التركيب والعلائق النحوية قوي محكوم بعلاقة التلازم الشرطي
أو شبه الشرطي، وكأن الشاعر يحاول بذلك رد الهوة الزمنية
ورتق خرقها الآخذ دأبا في الاتساع.
المراجع:
ابن عمر {ابوه}، محمد ابن الطلبه، دراسة الجانب العلمي
والأدبي من حياته، رسالة لنيل الماجستير ، كلية التربية،
جامعة الفاتح، 1982{ليبيا}.
ابن الحسين {أحمد}، أسلوب امحمد بن الطلبة اليعقوبي، بحث
لنيل الكفاءة في البحث، الجامعة التونسية، كلية الآداب 79-
80.
ابن الحسين {أحمد}، الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر
الهجري: مساهمة في وصف الأساليب، جمعية الدعوة الإسلامية
العالمية، 1995.
ابن السعد {محمد المختار} نظرة تاريخية على شرببة، بحث
لنيل الإجازة، المدرسة العليا للتعليم، نواكشوط 1982
ابن السيد {عبد الله بن محمد سالم} ، المعارضة في الشعر
الموريتاني، المعهد التربوي الموريتاني، 1995
ابن دهاه {محمد سعيد} تحقيق ديوان ابن رازكه، مطبعة النجاح
الجديدة، الدار البيضاء، 1986
ابن منظور {جمال الدين محمد بن مكرم} لسان العرب
الجبوري{يحي}، الشعر الجاهلي: خصائصه وفنونه، ط.8، مؤسسة
الرسالة، بيروت، 1997
الجراري {عباس } الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه،
مكتبة المعارف، ط.3، الرباط، 1986
الجرجاني{عبد القاهر} دلائل الإعجاز مطبعة الفجالة
الجديدة، القاهرة، 1969
الشنقيطي {أحمد بن الأمين}، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط،
ط3، مكتبة الخانجي ومكتبة منير، ط.3. 1982
عبد الودود {جبور}، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين،
بيروت.
عصفور{جابر } مفهوم الشعر، المركز العربي للثقافة والعلوم
1982.
الفاخوري{حنا} الفخر والحماسة، سلسلة فنون الأدب، ط.4، دار
المعارف، {د.ت}.الفيروزبادي{مجد الدين محمد بن يعقوب}،
القاموس.
الفيصل {شكري}، تطور الغزل بين الجاهلية وصدر الإسلام، دار
العلم للملايين، بيروت {د.ت}
القرطاجني {حازم} منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تونس 1966
القيرواني {ابن رشيق} العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،
حققه وفصله محمد محيي الدين عبد الحميد، ط4، دار الجيل،
بيروت، 1972
المبرد { أبو العباس محمد بن يزيد}، الكامل في اللغة
والأدب، مكتبة دار المعارف بيروت {د.ت}
مفتاح{محمد}، في سيمياء الشعر القديم، دار الثقافة، الدار
البيضاء، 1982
ولد اباه {محمد المختار}، الشعر والشعراء في موريتانيا،
الشركة التونسية للتوزيع، تويس1987
ولد صالح {الرشيد}، "من روائعنا الأدبية"، جريدة الشعب
الموريتانية، 7 و 12 مارس 1979
ويلك {رينه}، أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين
صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985.
|