الزمن لدى ابن الطلبه اليعقوبي:
مقدمة:
محمد بن الطلبه اليعقوبي من بين عباقرة الشعراء الشناقطة
الذين جعلوا من الشعر فنا خالصا، وصورة من الجمال تنساب
ألفاظه في عذوبة الإيقاع، وألبس معانيه أثواب الشكل
القديم فخلصت إلى خفايا الأحاسيس، وضربت مضامينها على
أوتار النفوس. ففي استطاعة القارئ أوالمستمع إلى شعره أن
يكتفي برونق فنه، وبهاء شعره، والاستمتاع بألحانه المطربة
وإيقاعه البديع، وإذا ما أراد أن يخوض في معانيه وأن
يستجلي دلالاته ومقاصده فإنه لا شك سوف يكتشف في مدونته
مذهبا متكاملا.
لقد كانت علاقة ابن الطلبه بالزمن علاقة من نوع خاص،
يطبعها صراع مستمر، يدين الشاعر فيها تصرف الأيام التي
تمر مسرعة إذا كانت أيام مسرة وحبور، وتطول لياليها عند ما
ينأى عنه أحبته ولم يبق له إلا خيال الزائر، ثم يأخذ على
الزمن أنه قلب لا يدوم على حال ولا يبقي على شيء، يبلي
معاهد الأحبة فيغير معالمها ويطمس آثارها ويفجع الشاعر
بذهاب لداته وأقرانه ويبزه حرزة النفس وأمواه المقل.
يقول:
{الطويل}
وتذكار أيام المبيدع شاقني
ألا حــبــذا أيــامـه ولـيـايـله
وحتى إذا كانت من أيام الصبا التي عرف فيها ألون المسرة و
السعادة، فهذه الأيام تتفاوت قيمتها عنده بحسب المكان
وهذا ما نلاحظه في قوله:
{الطويل }
وتـشهد أيـام الـصبا عـند ربـها
بأن ليس فيها مثل عصر الذريع
هذه أيامه التي لم تدم والتي أبنها بقوله:
{المتقارب }
فلو كنت أبكي لشيء مضى
بـكـيت عـلـى دهـرها الـزائل
وهكذا يتأكد أيضا تفضيل الشاعر للمكان وتشكيه من الدهر
الماضي الذي يقول
عنه:
{
الخفيف}
ذاك دهـر مـضى و مـر الليالي
مــــن تـعـاطـاه يـبله الـمـلـوان
حين عصر الشباب ألقى عليها
مــن قـلاص الـصبا بـكل
جران
لقد ضاعت عليه أيام صباه فأصبح يسأل المغاني التي غني
فيها حيه، فوجه استفساره إلى هضبة الخيل قائلا:
{الخفيف}
هـضبة الـخيل أيـن حـي حـلال
عـمروا مـنك كـل مـغنى خـراب
أيـن حـي غـنوا بـسفحك دهرا
محسني حرص رفعة الأحساب
وإذا كان الشاعر يعيب على الليالي أيضا أنها تقصر وتولي
مسرعة في أيام النعيم، وتتطاول وتمتد في لحظات الحزن، وفي
فترات الفراق فإنه أي الشاعر ليس بدعا في هذا الإحساس،
فهو مهيع سلكه جمهور شعراء العرب في أغلبهم، وهو نابع من
شعور إنساني شائع في الأدب العالمي؛ إذ قد اشتهر قول أحد
الشعراء الفرنسيين: (أيها الزمان ضم إليك أجنحتك، وكف عن
الطيران لدي)
لكن تعابير بن الطلبه كانت من أدق ما وصف به طول الليل؛
ذلك أننا نرى ثلاث صور تمثل امتداد ليل المحب النازح عن
أوطانه، فمنها ما أتى على لسان محمدو بن محمدي العلوي الذي
يقول:
{ البسيط }
هـل فـي بكا نازح الأوطان من باس
أم هل لداء رهين الشوق من آس؟
أم هـل معين يعين المستهام على
لـيـل كـواكـبه شــــدت بــأمــراس؟
ونلاحظ أن نجوم ابن محمدي قد شدت بالحبال، ولكن أمراسها
حرة طليقة ومع هذا قد تؤثر على سير النجوم.
أما الصورة الثانية فهي التي وردت لدى امرئ القيس القائل:
{الطويل }
فـيا لـك مـن ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فامرؤ القيس لم يكتف بالأمراس، ولكن ربطها بأثقال الجنادل
مما سيزيد في بطء سير النجوم، ويجعلها لا تتحرك إلا بكثير
من الجهد والمشقة.
أما الصور الثالثة في تباطؤ الليل فهي التي عبر عنها بن
الطلبة الذي مثل النجوم في وضع لا تستطيع معه أن تتحرك
أصلا؛ لأنها قد قيدت بالأمراس، وأن هذه الأمراس قد ربطت
بهضبتي إج، ومن المعروف أن هاتين الهضبتين لن تبرحا
مكانهما، واقترانهما بالنجوم لا يدع للنجم أي مجال لمجيء
أوذهاب، وهكذا كان تعبير الشاعر في قوله:
{الطويل }
تــطــاول لــيــل الــنــازع الـمـتـهيج
أمـــا لـضـيـاء الـصـبـح مــن مـتـبلج
ولا لــظـلام الـلـيـل مـــن مـتـزحزح
ولـيس لـنجم مـن ذهـاب ولا مجي
فــيـا مـــن لـلـيـل لا يـــزول كـأنـما
تـشـد هـواديـه إلــى هـضـبتي إج
كـــأن بــه الـجـوزاء والـنـجم ربــرب
فـراقـدهـا فـــي عــنـة لـــم تـفـرج
وتـحـسب صـبيان الـمجرة وسـطها
تــنـاويـر أزهــــار نــبـتـن بـهـجـهـج
كـــأن نــجـوم الـشـعريين بـمـلكها
هـجائن عـقرى فـي مـلاحب منهج
فـبـات يـمـاني الـهـم لـيـلي كـأنـه
ببرح مقام الهم في أضلعي
شجي
ففي هذه القطعة الرائعة أبدع الشاعر صورة لثبات النجوم،
فشبه الجوزاء والثريا بقطيع من الآرام سدت الحظائر على
فراقدها، أما نجوم الشعريين فكأنها العيس التي عقرت على
وضح الطريق، وبين المجموعتين أخذت الشاعر التفاتة فنية حول
المجرة، ثوان نسي فيها سكون الأنجم في السماء؛ لأن صبيان
المجرة ذكرته بالأزاهير التي تنبت بالأرض الفيحاء.
ثم ما لبث أن عاد ليل الهم وبرح الشجى، ذلك الليل الذي
ركدت أنجمه و ضلت طريقها فصار بالنسبة إليه مثال ليل نابغة
بني ذبيان، فهو يتساءل:
{الكامل }
يـــــارب لـــيــل نــابــغـي بــتــه
أرعــى الـنـجوم وعـاذلاتـي نـوم
مـــا لـلـنـجوم رواكــدا ألـغـبن أم
حارت أم أخطأت الطريق الأنجم؟
ويقول:
{الخفيف}
أم لليلي من انتهاء؟ فإني
لا أرى الـليل مـؤذنا بانتهاء
ويتضاعف همه حينما يرى أم الحباب وينام عنه صحابه فيقول:
{الخفيف}
طـال ليلي ونام عني صحابي
من خيال سرى من أم الحباب
ويقول في رائعته الميمية:
{الطويل }
تأوبه طيف الخيال بمريما
فبات معنا مستجنا متيما
وفيها يقول:
وبــــت بــهــم لا صــبــاح لـلـيـلـه
إذا مــا حــداه الـصـبح كــر ودومــا
فـقلت: أمـا لـليل صـبح كـما أرى؟
أم الصبح مما هيج الطيف أظلما؟
بـلـى كـل لـيل مـصبح غـير أنـني
أرى الـصبح ياللناس للصبح
أنجما!
وفي هذه الأبيات تتكرر الصورة؛ إذ يتأوب الطيف ويروح
الخيال فيبقى في ليل يتردد ظلامه ويعيد التساؤل مفترضا أن
كل ليل ينتهي إلا ليله هو، معتقدا أن ضياء الصبح سوف يعيد
عليه راحته ويعيد هذا التأوه بقوله:
{الخفيف}
طال ليلي بساحة الكرب حتى
كدت أقضي الحياة قبل الصباح
وكأنه لم يتذكر ما قيل قبله:
{الطويل }
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
بـصبح وما الإصباح منك بأمثل
فهو لا يريد أن يجمع بين ظلمة الليل وطوله وما ينتابه من
أرق وهموم، ومن الحوب الذي لا يغفره الشاعر للزمن أن
أعوامه تعدو على ربوعه الحبيبة، فتندثر معالمها وتطمس
رسومها وتمحي آثارها مثل قوله:
{الخفيف }
بــتـراريـن مــربــع لــلـربـاب
حسن لو أبان نطق الجواب
وبـآمـل حـوله ربـع سـلمى
صـيـرته الـليال رقـم الـكتاب
إن كل هذا البلاء الذي يصيب معاهده الأليفة كان من صنع
الأعوام التي تمر عليها، وفي ذلك يقول:
{ الخفيف}
دمن قد أتى عليهن بعدي
حـجج فـارتمى بـهن البلاء
غير أن المصيبة الكبرى التي تأتيه من محن الزمن هي أن يفقد
من هو أعز عليه من نفسه وعينيه حين يقول:
{الرمل}
أمـن الـدهر تـشكى إن نزل
بـك مـنه حـادث غـير جـلل؟
أمــن الـدهـر تـشـكى بــزه
حرزة النفس و أمواه المقل؟
أي يـوم لـم يـنخ فـيه عـلى
مـعـشر مـنـه بـكـلكال نـزل؟
كان هذا في رثائه المؤثر لفتى الخمس ابن إياهي الذي سكب
عليه دموعا من الحزن و صفها بقوله:
{الرمل }
مــا ظــؤار عـجـل حـانـيـة
تضمر اليأس فيغريها الأمل
يـتـشممن مـجـر الـبـو لا
هن يغفلن إذا شول ذهل
يـتـعـاطين حـنـينا مـوجـعا
فـهو لا يأتي ولا هي تمل
بـأمـر الـيـوم مـنـي لـوعة
يـوم فـارقت بحمد لم
ينل
وبعد استعراض مآخذ الشاعر على الزمن يحق لنا أن نتساءل: هل
كان ابن الطلبه منصفا في اتهامه وعادلا في حكمه على
الزمان؟ نضع هذا السؤال لأننا نتصور أن محمد الطلبه لم ير
في أيام عمره ألا خيرا؛ لقد عاش مكرما في عشيرته، محببا في
أقرانه، محل إعجاب في وسطه، وجيها في بلاده، إنها الحياة
التي لخصها محمد بن هدار حين قال في رثائه:
{شعر حساني من البتيب}
امــش امـودع لـلرحمن
قـطب ازو تـيرس وِامـامُ
امـحمد الـطلب صَلطان
الــطــايــح رفـاد اخـيـامُ
يعمل ذاك الِ يفعل كان
إراه امـــحـــمــد قــدامُ
فالأيام إذا لم تمس الشاعر بضير ولم تسمه بسوء، وإذا كانت
فترة الصبا فيها مرت بسرعة فإنها أعقبته أيام الحكمة
والنضج والسمعة الطيبة، فإن له أن يقول عنها مثل ما قال
المأمون بن محمذن الصوفي:
تاه شيبي على شبابي لأني
لـم أكـن نـلتها زمـان الـشباب
أما لياليه التي تحدث عن طولها وتطاولها عليه، فإنها مضت
عليه وهو في حالة انتظار مقلق في نفسه، لا ذنب لليالي في
ذلك، ولقد اتبع في الامتعاض منها سبيل القدماء، مع أنه
يعرف أن الزمن لا تطول ساعاته ولا تقصر، وإنما يصعب أويسهل
تحملها حسب ظروف من تمر عليه.
أما ما كان يعيبه على الأعوام من تغيير معالم أمكنته
المحببة، فقد أجاب عنه الشاعر نفسه في قطعته التي يقول
فيها:
{ الخفيف}
حي
من ساحة المبيدع دورا
جـنبة الـريع قـد دثـرن دثـورا
قـد أضـر الـبلى بـها غير لوح
مـن رسـوم تـخالهن زبـورا
وبـقـايا مــن أرمــدات تـقـيها
خـالدات الـصفا الصبا
والدبورا
فهو في البيت الأخير يقول بأن الزمن لم يغير من أرمدات دور
المبيدع التي حمتها الصخور من تأثير الرياح عليها، فهو هنا
يعترف ولو بطريقة غير مباشرة بأن الرياح وكذلك الأمطار هي
التي تغير آثار الديار، و لا دخل للأيام في ذلك لأنها
تكتفي بمراقبة الأحداث في صمتها الأزلي.
وجوابا عن الإدانة الرابعة التي أدان بها الدهر والمتمثلة
في أنه ينيخ بكلكله على الناس ويصيبهم بالفواجع المحزنة
فإنه قد اعتذر عنها معربا أنه لا يشتكي منه، ولعله في هذا
الموقف بالذات يتذكر الحديث النبوي الذي أورده أبو الزناد
عن الأعرج: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال: "لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الدهر هو الله ".
ويقول أبو عمر بن عبد البر: إن هذا الحديث وما يشبهه من
الروايات كانت ردا على أهل الجاهلية الذين يقولون: "و ما
يهلكنا إلا الدهر " ثم ذكر بن عبد البر أن ذم الدهر قد جرى
على ألسنة الشعراء في الجاهلية والإسلام، غير أن العبرة في
ذلك في النية والعقيدة، وهذا ما جعل الشاعر يبدأ في تبرمه
من حوادث الدهر بتفادي التشكي عارفا أن الأمر لله وحده
وأنه الخليفة في كل شيء فيقول:
{الرمل }
نـفس صبرا إن في الله لنا
خلفا و الموت ما عنه حول
وبعد تقديم دفاعنا عن الزمن ومحاولة تبرئته مما ينسب إليه
يجدر بنا أن نعود للشاعر لبيان تفهمنا لموقفه من صروف
الليالي والأيام، إن كل الذين عرفوا هذا الشاعر أدركوا أنه
شاعر الأمكنة مغرما بالمواضع كثير التجوال فيها من ضفاف
نهر السنغال في القبلة، إلى أقصى شمال تيرس.
فهذه الأمكنة ظلت ماثلة أمامه لايتغير من معالمها إلا
القليل، فبقيت مستودع ذكرياته الجميلة، أما الأيام فإنها
تمر أمامه فلا يستطيع الاحتفاظ بها ولا أن يستعيد منها
أوقاتها الحلوة، ولا أن يلحق بما فات منها، فصار الزمن
عنده حقيقة غامضة لا يرى علاماته إلا في اختلاف الأيام
وحركات في ظلام الليل وبالموعظة في وضح النهار.
ومن أجل هذا الشعور المرهف نشأت محنة الشاعر مع الزمن،
وتركت لنا آثارها روائع من فنه، ستبقى خالدة على مر الزمن
الذي صارعه ابن الطلبة وانتصر عليه في هذا الصراع.
|