الثقافة العالمة في منطقة تيرس في القرن الثالث عشر الهجري:
التأثر والتأثير محمد بن الطلبة مثالا":
توطئة:
شكلت منطقة تيرس فضاء مغايرا عن غيره من البداوات؛
تميز بظاهرتي: الظعن والتحصيل العلمي، وهما نشاطان
متناقضان غالبا، وقد واظب أفراد هذا الفضاء على استنبات
قيم حضارية مرتضاة تمثلت في إشاعة المعارف المكتوبة
بمصاحبة اللوح ومعية القلم، وبعض مظاهر إعمار الأرض كحفر
الآبار، وممارسة بعض الحرف الاقتصادية كالتجارة والزراعة،
وقد تم ذلك في ظروف طبيعية وبشرية غاية في الصعوبة، فشيدوا
بذلك قمما تعانق فيها العلم والأدب والصلاح، فكان هذا
الفضاء قبلة مريدي النجاح الدنيوي والأخروي. يقول العلامة
كمال الدين محمد المجيدري 1204هـ واصفا جانبا من هذا
الواقع المميز:
يامن يرى ولا يرى
واجعل لأمر عسُرا
لقد نفى عني الكرى
لهفي عليهم نبلا
إن قيس مَعبد على
أوقيس سُحبان على
حب المهيمن جرى
وامتثلوا ما أمرا
واجتنبوا ما حظرا
منزلهم رحب الذرى
فاقوا جميع من قرا
هم كرام ذا الورى
|
عني الكروب نفس
يُسرا بلا تنكس
شوقي لأهل تيرس
مهذبين فضلا
غريدهم كالأخرس
بليغهم لم يَنبُس
في الدم منهم وسرى
به أجل قبس
من خبث ورجس
وكومهم شم الذرى
وخط بالأباخس
هم ثمال البائس
|
فخلقوا بذلك جوا من الأمن والاسقرار والاستقلال، يقول
العلامة محمد بن الطلبة 1272هـ في قصيدته اللامية الطولى:
صاح قف واستلح على صحن جال |
سبخةِ النيش هل ترى من جمال |
يقول:
ظعن لسن ينثنين إذا ما |
وزع الظعن حادث الأوجال |
كما يذهب المذهب نفسه العلامة الشيخ محمد المامي بن
البخاري 1282هـ
بلاد العامري لنا اصطفاها
(...) فنعمرها مطرقة ولسنا
(...) ولم يبرح لدى فحلين منا
(...) فصارت في جزيرتها حجازا
|
فبارك ربه فيها وفينا
بعروة طبل قوم آخذينا
شقاق في علوم
العالمينا
ونحن لها معد آخرونا |
ويقول العلامة المامون بن محمذن الصوفي 1253هـ
خليلي جاد الغيث أعجاز تيرس |
وجادت ثنايا الكرب بالغدق الغمر |
وراحت بطانا بالعشيات فرشها |
وكاد حمول أو يقال إلى عشر |
فمن لي بفتيان يسدون ثغرها |
ويحيون عهد المكرمات بها الغر |
ويقول العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي 1316هـ
حامد لله نجعي امكْيم |
نرتع ماه بماجرن |
بين انال أكْلب اظليم |
تشل وابير إكْازرن |
ويذهب المهيع نفسه العلامة محمد المصطفى بن الشيخ محمد عبد
الله بن تكرور 1312هـ
فلما بدت للعين دارات تيرس
|
تذكرت بالأجواد أيامنا نصبو
|
فما دمنة الأجواد إلا كجنة
|
فما مسنا فيها لغوب ولا نصب
|
وقد انتهج القوم سلوكا بنوا من خلال هذه الحصون العلمية
والدينية والخلقية المنيعة، تمثل في: الإقبال على التعلم
وانتهاج سياسة السلم ولإنصاف، ونبذ العنف والتعصب، وفي
المقابل الاحتكام إلى النص الشرعي وإلى العقل، يقول
العلامة والنسابة حماد المجلسي حاضا على الاستماتة في
تحصيل العلم:
له تغرب وتواضع واترِع |
وجُع وهُن واعص هواك واتبع |
حتى يُرى حالُك حالَ المنشد:
"لو أن سلمى أبصرت تخددي |
ودقة في عظم ساقي ويدي |
وبُعدَ أهلي وجفاءَ عُوَّدي |
عضت من الوجد أنامل اليد" |
واقصِد به وجه الذي أنشاكا |
ولاتناو فيه من ناواكا |
ويقول أحدهم واصفا طلاب العلم وصفا يحمل الكثير من
الواقعية:
تلاميذ شتى ألف الدهر بينهم |
لهم همم قصوى أجل من الدهر |
يبيتون لا كِنٌ لديهم سوى الهوا |
ولا من سرير غير أرمدة غبر |
وشاعت على ألسنة الرواة الفتوى بوجوب العلم على الرجال
والنساء، وعُد ترك التعلم منكرا مِن العمل، مَن استمر عليه
كان سلوكه مشينا في المجتمع، يقول بعضهم ناظما لذلك:
وطلب العلم وجوبه شمل |
جمع الذكور والإناث كالعمل |
ومن على ترك التعلم استمر |
فهو كلب أو حمار أو أشر |
ومن هنا جاز تسمية القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر
الميلادي بالعصر الذهبي لهذه المنطقة؛ إذ استوت فيه ثقافة
منطقة تيرس على سوقها، فأنجب فطاحلة العلماء والأولياء
الذين ذاع صيتهم وعمت شهرتهم الآفاق، فأنتجوا تلك الثقافة
العالمة، وخلدوا مآثر جعلتهم رواد عصرهم بل رواد كل
العصور، من هؤلاء الجهابذة نتناول محمد بن الطلبة – مثالا
– وكيف كان نموذجا للثقافة العالمة في منطقة تيرس:
-
فمن هو محمد بن الطلبة، وكيف كان مثالا للثقافة العالمة في
منطقة تيرس في القرن 13هـ\19م؟
-
وكيف كانت علاقته بمعاصريه تأثر وتأثيرا؟
مدخل:
لقد وسمنا هذه المحاضرة بعنوان: "الثقافة العالمة
في منطقة تيرس في القرن الثالث عشر الهجري: التأثر
والتأثير محمد بن الطلبة
مثالا" وسنتناول هذا العنوان من خلال مكونتين؛ أولهما:
حياة محمد بن الطلبة، وثانيهما: علاقته بمعاصريه، في حين
يمكن لكل واحد من الجزأين أن يكون عنوانا لكتاب أحرى أن
يكون شقا من محاضرة في ليلة واحدة في دقائق معدودة، لكنه
يقال: مالايدرك كله لايترك جله أو كله...
إن محاولة دراستنا حياة ابن الطلبة يجعلنا في مفترق
طرق، فالدارس لحياة ابن الطلبة كالداخل لمصر – كما يقال –
لايعرف من أي الأبواب يدخل؟
فهل ندخل من باب ابن الطلبة الولي الصالح؟ أم ابن
الطلبة العالم المتبحر؟ أم ابن الطلبة الشاعر الفحل؟ أم
ابن الطلبة المصلح الاجتماعي؟ أم ابن الطلبة المجاهد؟ أم
أم أم...
نسبه:
هو امحمد بن محمد الأمين بن محمذ آب بن المختار بن موسي
(ألفغ موسى أي الفقيه موسى) بن يعقوب بن أبي موسي بن يعلى
"أبيال" بن عامر بن أبي يعلى بن ابهنضام (وهو عامر الأكبر
وبه يعرف سائر بني يعقوب) بن محمد بن يعقوب بن سام بن عبد
الله بن أعمر بن حسان بن موسى بن حامد بن سعيد بن المختار
بن أعقل بن معقل بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي...
وأم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب هي: زينب بنت علي بن أبي
طالب، وأمها: فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
وأمه: عائشة بنت أحمد خرشي بن محمد الخراشي بن مسكه بن
بارك الله فيه بن أحمد بازيد بن يعقوب بن أبي يعلى بن
عامر؛ الذي يعتبر حلقة الوصل بين جد ابن الطلبة لأبيه: أبي
موسى، وجده لأمه: يعقوب، حيث يلتقيان عنده في النسب. وكان
هذان البيتان بيتي علم ومجد وكرم وصلاح، ومن هذين البيتين
نشأ ابن الطلبة.
-
مولده ونشأتـــــه:
في نهاية العقد التاسع من القرن الثاني عشر الهجري حوالي:
1188هـ الموافق: 1774م، ولد امحمد بن الطلبة بتيرس
وتحديدا عند: "أقليبات اطليحة"
وهو مكان يقع بين "انتاجاط" مكان مدفنه و"أيق" مكان مدفن
الولي الصالح الشيخ محمد المامي، لكن القدر لم يشأ أن يعيش
ابن الطلبة في كنف والديه - كغيره من النوابغ - فقد غيبهما
الموت ولما يكمل ابنهما ربيعه الأول.
لكن حزم جده لأبيه محمذ آب بن المختار - وقد كان قبلة
عصره في العلم الظاهر والباطن - حال دون إحساس الحفيد بما
قد يعانيه من هو في وضعه، فغمره عطفا وتوجيها، وغذاه علما
وحلما، ففتح الصبي عينيه على المعارف والعلوم والسلطة
والجاه، فطفق يحصل ما استطاع تحصيله من الثقافة العربية
الإسلامية آخذا من كل تخصصاتها بنصيب وافر موظفا في ذلك
وقته، فكان التكوينَ الأولَ الذي حدد معالم شخصية ابن
الطلبة.
وبعد ذلك بدت على الطفل بشائر النبوغ فأخذ الكثير من
المعارف حفظا وضبطا، ساعده على ذلك محيط أسري نابض بالعلم
والتعلم، فشرع ينهل من معارف جده وعمه حبيب الله (توفي
حوالي: 1230هـ) آخذا عنهما ما يلزم من النحو والفقه واللغة
والأدب والعقيدة، ليتردد بعد ذلك على حلق المساجد التي
كانت تغص بها منطقة تيرس ممثلة بذلك أهم منتديات العلم
ومجالس الأدب، وباختصار: نواة مراكز الإشعاع الثقافي في
المنطقة؛ إذ يؤمها من حولها من الأحياء والقرى، ومن
بحوزتها من أهل المعارف والنهى.
1 – محمد بن الطلبة العلامة:
لقد تضافر عاملا البيئة والوراثة في تربية
محمد بن الطلبة؛ فاستلهم علوم المحضرة الشنقيطية مما هيأه
للتميز، وتظهر مراسلاته أجلاء علماء عصره علو كعبه في
مختلف العلوم، كما تظهر فتاويه سعة علمه؛ بدعوته للرجوع
إلى أصول الشرع وعدم الاكتفاء بالفقه الفروعي المتأخر، كما
هو الحال في نازلة: "منت ارشيد ولكور" فقد صاغها نظما
حسانيا يسهل على العامي البسيط الاستفادة منه أحرى النخبة
والعلماء، يقول من بحر "لبتيت":
مسلت منت ارشيد أو لكور
كْالو عنها ما
تصور
إنا لله مكْس عاد
أومكْل أهل العلم افلعباد
نتاكْين إلِّ منُ كْاد
عاد الحكم إلِّ عنو حاد
ياب عنو واتعود اعناد
باسم الله كْلناه زاد |
|
جهلوها ول ذاك علاه
هاذو الطلب إنا لله
كْول الحكْ اليوم افلبلاد
أهلُ كْلاعين امن اغباه
حد اكْر وزار أُكْراه
كْصر عن ول جولاه
إياك انكْلولو مكْراه
غير الحكْ ابكْ ما كْلناه |
***
ذي المسلَ وكتن جهلوه
عادو –يلهيه- امن اعدوه
واشهاد فيه شهدوه |
|
***
كْالو ذي العصم حلوه
من جهل شيئا عاداه
ما يكْبله حد ابمعناه |
***
وَلِي وساه ما تنحل
فعل انبين فمنين أُوحل
اعليه انبين ما زحل
كْال احلف وامنين احلف حل
***
كْيورهم تقليد اطررات
مجهولت لبات أولمات
بيهَ فيه الناس السوات |
|
***
أعادت من روح الغول
اوحل
بن عم فالطلاق
أجاه
صلى الله اعليه أُنَواه
عنُ غير الِ بيه انْواه
***
زيف من لخل مرفودات
ماهِ لخليل أو لا معناه
واضح ملاه إل والاه |
***
كْيورهم تقليد القليل
والطارِ مُراهم من جيل
ومَشي لفظ بالتبديل
وإل لاحو من نكْد اكبَيل
لكلام إل حكم تنزيل
وَلِي منهم ما عكْد القيل
ما يعرف معن لفظ اخليل
إلا اللهُ كون اتغلغيل
|
|
***
التال من شراح اخليل
وَلِ عاد إلاو معناه
ذاك إل زامكْهم وياه
تعلام أصل الدين أمبداه
بيه انبين رَسلُ مولاه
فيه إلين اكْراه أكْراه
ألا يعرف معن لا إله
بلسان، والمعن جولاه
|
كْال التودي والبناني
لمير أكم من بران
ذاك آن وحدِ مغناني
وحمدت الفتاح اعطانِ
والهم لِي قلبِ والسانِ |
|
والخراشي والزرقان
ف اتفيسير اخليل أمعناه
ولا ريت إلي غيري مغناه
من فتح لعظيم أمعطاه
باش انرد الراغز فكْفاه |
***
كْال اخليل أكْال المواق
والقاض عياض: الطلاق
بيه الفظ واعل لفظ فاق |
|
***
إلمام أبهرام ابوفاق
ما يلزم ماه حد انواه
والكْول إل غير ذراه |
وتظهر مؤلفاته - والتي عبثت يد الزمان ببعضها كغيرها من
تراث المنطقة - مكانته العلمية المرموقة؛ فقد نظم أهم
متنين علميين اعتمد عليهما الدرس المحضري آنذاك، في الفقه
والنحو وهما:
-
نظم التسهيل، وهو نظم في النحو نظم فيه: تسهيل الفوائد
وتكميل المقاصد لابن مالك (762هـ) وجله مفقود، يقول في
مستهله:
قال الجدير بالجفا الفقير
محمد المعروف بابن الطلبة
جم العيوب مـــــدمن الذنوب |
|
لرحمة الرحمن والحقير
هيئ له يارب أسنى طلبه
الهاشهي الجعفري البعقوبي |
ومنه:
وقد يضيفون لأدنى مقتبس |
ككوكب الخرقاء لاح بقبس |
- نظم التسهيل والتكميل في فقه متن خليل؛ وهو نظم فقهي نظم
فيه مختصر الشيخ خليل بن إسحاق الجندي (776هـ) وجله مفقود،
يقول في مقدمته:
لله وحده الغنيِّ الحمدُ
وآله وصحبه مسلما
|
|
مصليا على النبي وبــــــعد
ملتمسا للعون من رب السما
|
إلى أن يقول:
فإنـــــهم يدرســـــونه ولا
فصار معرفا وهم بالمشأم
|
|
يدرون ما أتى ولا ما أهملا
شــــتان بين مغرب ومشئم
|
- مجمع امحمد وهو كناش جمع فيه مختارات من كتب: الأغاني
والنوادر والأمالي.
- شرح ديوان الشعراء الستة الجاهليين.
-
عدة أنظام تعليمية مثل:
- نظم فقهي في حكم مس المصحف، موجود بمكتبة أهل الطلبة،
يقول في أوله:
قال أبو القاسم في الروض الأنف
في مس مصحف بلا طـــــــهاره
|
|
وقوله كأنه روض أنف
أباحه جماعة مختــــاره
|
- نظم في التوحيد وفي معنى وإعراب كلمة التوحيد: لاإله إلا
الله، موجود في مكتبة أهل الطلبة، يقول في أوله:
أول واجب على من كـــلفا
معنى الإله باللسان العربي
فإن من لم يدر مامعــــــناه
|
|
تعلم اللغة حتى يعرفا
لأنه مفتاح نيل الأرب
لم يــــدر لا إله إلا الله
|
- نظم لغوي معجمي في تسميات ليالي الشهر، يقول في بدايته:
كل ثلاث من ليال الشهر
فغرر فنُفَل فتســــــــــــع
|
|
قد سميت باسم لديهم فادر
فعشرها فالبيض ثم الدرع
|
-
كما خلف ديوانا شعريا تناول فيه: كل أغراض مدونة الشعر
العربي سوى غرضي الهجاء والمدح التكسبي، فقد حوت الأجناس
الشعرية التي تضمنتها مدونة الشعر العربي القديم باستثناء
المدح التكسبي والهجاء برغم ما زخر به الشعر العربي عامة،
والشنقيطي منه بوجه خاص من هذين الغرضين، فقد عاش الرجل
غني النفس عفيف اللسان.
-
كما قامت دار الرضوان – مشكورة – بالتعاون مع جامعة
انواكشوط بتنظيم ندوة دولية عن هذا الديوان.
-
ولأن ابن الطلبة كان مولعا بنقل الكتب واستنساخها وذلك
لجمال خطه، فقد قام بخط المصحف، ويوجد جزء من هذا المصحف
بحوزتنا في مكتبة أهل الطلبة.
2 - محمد بن الطلبة الشاعر:
شغف ابن الطلبة بأرض تيرس - مسقط رأسه - فلانكاد
نجد موضعا منها إلا وله ذكر في شعره؛ فوثق في شعره الأوراق
الثبوتية لهذه الأرض، وكيف لا وهي مرابع طفولته وصباه؛
فعند معاينة المكان تأخذ الشاعر التفاتة يتسرب الزمان من
خلالها عبر الذكرى في ومضات آنية واسترجاعية؛ يتحسس الشاعر
من خلالها تحولات الزمن، وكيف عبث بالمكان فغير معالمه،
وأفقره بعد أنسه، فيلتحم المكان بالزمان ليشكلان لوحة فنية
ترى وتسمع وتحس من خلالها حتى وكأنك تتفاعل مع اللحظة،
يقول في ميميته الطولى - التي عارض بها حميد بن ثور
الهلالي ت 30هـ - والتي مطلعها:
تـــأوَّبَــهُ طـــيــفُ الــخــيـالِ بــمَـريـمـا
فـــبــاتَ مُــعَـنّـىً مُـسـتـجَـنّاً مُـتَـيّـمـا
إلى أن يقول في تتبعه رحلة الظعائن من الفُج مرورا ب
اتميميشت صطل واكمان إلى توطسن إلى نجد لكوير إلى أيك إلى
واد آتوي فايكنيون فالبسع اظويات أو جلوة فإماكرن:
ولــلّـهِ عـيـنـا مــن رأى مـثـلَ سـيـرِها
إذا رجّــــع الــحـادي بــهـنَّ وهـمـهَـما
سَـلَـكـنَ جـــواءَ الــفُـجِّ ثُـــمَّ تـطَـلَّعَت
مــن الـصـخرَةِ الـبـيضاءِ نـجـداً مـهضَّما
جـعَـلنَ قـنـانَ الـوطـسِ نُـصبَ عـيونِها
وكـــان لــهُـنَّ الـوُطـسُ قـدمـاً مُـيَـمَّما
ويــامــنَّ عــن نـجدِ الـقُوَيرِ ويـاسَـرَت
عــنِ الأيــقِ نُـكـباً سـيرُها لـن يُـثَمثَما
وحَـلَّـت بـبَـطنِ الأتــو مُـسـياً ومــا بـهِ
عـــلاقٌ فــبـاتَ الـظـهـرُ حـدبـاً مـزمَـمّا
وأبــكَـرنَ يـخـبِـطنَ الـجـفـاجفَ غُــدوَةً
كــأصــرامِ عــيــدانٍ أنـــى أن تُـصَـرّمـا
فألقَت على الكِنوَينِ من نسجِ سدوِها
هـجـيراً بــرأيٍ مـحـكَمِ الـنـسجِ أقـتَما
يُـحـاوِلـنَ بـالـسَـبعِ الأُضــيّـاتِ مـشـرَباً
مـــن الــغُـدرِ أو عَـيـناً بـجَـلواءَ عَـيـلَما
وَرَوضـــــاً بــأكــنـافِ الأمــاكــرِ زاهِــــراً
قَـــدَ ارزمَ فـيـه الـرعـدُ سَـبـتاً وزَمـزَمـا
فـألـقَت عِـصِـيَّ الـسـيرِ فـيه وخـيَّمت
بـحَـيـثُ بــعـاعُ الــمُـزنِ ســحّ وخـيّـما
عَـسى الـلَهُ يُـدني بـعد بـعدٍ مـزارَهُم
فـيـأنـسَ صـــبٌّ بــعـدَ حـــزنٍ ويَـنـعَما
كما نجده يسلك نفس المهيع في جيميته التي عارض بها الشماخ
بن ضرار الغطفاني والتي مطلعها:
تـــطـــاوَلَ لـــيـــلُ الـــنـــازحِ
الـمُـتَـهَـيِّـجِ
أمـــــا لــضــيـاءِ الــصـبـحِ مــــن مُـتَـبَـلَّـجِ
إلى أن يقول:
وذُكــــرةِ أظــعــانٍ تـربَّـعـنَ بـالـلـوى
لوى الــمــوجِ فـالـخَـبتَينِ مـــن نــعـفِ دوكـــجِ
إلـــى الـبِـئـرِ فـالـحـواءِ فـالـفُجّ فـالـصوى
صــوى تـشـلَ فـلأجوادِ فـالسَفحِ مـن إج
تَـــحُـــلُّ بــأكــنــافِ الـــزفــالِ فــتــيـرسٍ
إلــــــى زيـــــزَ فــالأرويـتـيـنِ فـــالاعــوجِ
إلـــيَ أبـلـقـي ونــكـارَ فـالـكَـربِ تـرتـعي
بـــه حـيـثُ شــاءَت مــن حـزيـزٍ وحُـنـدُجِ
تــرَبّـعُـهـا حـــتّــى إذا مـــــا تـنَـجـنَـجَـت
جــوازِئُــهـا تــعــدو إلــــى كــــلِّ تــولَــجِ
وصَـرَّت عـلى الـظُهرانِ مـن وهَجِ الحَصى
جَــنــادِبُـهـا فــــــي لافــــــحٍ مُــتَــوَهِّــجِ
وتتضاعف لوعة امحمد بالمكان فيجد في الأوب إلى مرابع
الشباب عودا محمودا يتحررفيه - ولو لبرهة يسيرة - من جبروت
هذا الزمن الماحق، لينعم بين أحضان زمان انصرم ومكان نآى
بما كان من مسرة ونعيم من لقلات إلى آدرمان إلى واد الجنة
إلى اجميعية إلى بو الاوتاد إلى اكْليبات إنيان:
لــــجَّ فـــي غَــيّـهِ الـقـديـمِ الـمُـمـاني
مـــــــن جُــــنـــونِ الــصــبــا ولاتَ أوانِ
لــــجَّ فــــي غَــيَّــهِ ولَــــجَّ بـــهِ الـهُـتـ
ـرُ لـــعِـــرفــانِ دارِســـــــاتِ الــمَــغــانـي
لِــمَــغــانٍ عـــرَفــتُ مــنــهـا رســـومــاً
بـــيــنَ هـــضــبِ الـــقــلاتِ فــادرّمــانِ
فــالــدِمـاثِ الـــتــي بــمَـدفَـعِ أعــلــى الـــ
ــجـزعِ ذي الـطـلحِ جـزعِ وادي الـجنانِ
فــإلــيَ هــضـبَـةِ الـجـمـوعِ فَـــذي الأو
تــــــادِ فـالـجَـنـبَـتَـينِ مــــــن أيــنــيـانِ
عـشـتُ فـيـها مــن بـعدِ عـشرٍ وعـشرٍ
بـــعــدَ ســبــعٍ خــلــونَ بــعــد ثــمــانِ
فـــتَــوَهَّــمــتُ آيَـــــهُــــنَّ كـــبـــاقــي
الــ
ـــوشـمِ فـي الـكفِّ أو كـجَفنِ الـيَماني
ويجعل من الطلح شاهدا شاخصا على فترة ذهبية مرت وكأنها
لحظة، فتنثال عليه لواعج الشوق، وحرقة الفراق:
...واســـألا الـطَـلـحَ عــن مـعـالمِ عـهـدَيْ
حــيــهــا مِــــــن مـــلاعـــبٍ ومَـــبـــانِ
فــعَـسـى الــطـلـحُ إن يـجـيـبَ فـعِـنـدَ الــطـ
ــلـحِ لـــــو ردَّ خُــبــرُهُـم بـالـبـيـانِ
...إذ لــــداتـــي صــــغـــرُ الـــخـــدودِ وإذ أعــ
ــيُــنُ عـــيــنِ الــمــهـا إلَــــيَّ روانِ
بـــيَــدي رايَـــــةُ الــصِـبـا والــهــوى إن
أنـــــا لـــــم أدعــــهُ إلــيـهـا دعــانــي
إنَّ بـــــي مـــــا عَـلِـمـتُـهـا وكــفــانـي
يــــا خـلـيـلَـيَّ بــعــضُ مــــا تـعـلـمـانِ
وتظل ظاهرة تعداد الأمكنة في شعر ابن الطلبة ملمحا من نوع
خاص يأخذ بمجامع القارئ والمستمع حتى ليخيل إليه أنه
تداعبه نسمات المكان:
هـــــاجَ قــــرحَ الــغــرامِ بــعــدَ انــدمــالِ
ظَـــعــنُ ظُــعــنِ الـخـلـيـطِ يــــومَ إنــــالِ
يـــــومَ وَلَّـــــت كــأنــهـا حــيــنَ جــــدَّت
بــاسِــقــاتُ الــنـخـيـلِ مـــــن كـــانــوالِ
مـــائــراتٍ مــعــرورفـاتٍ عـــلــى ظَـــهــ
ــر مـــــــرورى الــقُــلَــيـبِ ذي الـــطــيــرلال
جـــاعِــلاتٍ عَــــن الـيـمــينِ تـمِـزكـيـ
ـنَ
ضُـــحَـــيّــاً وتــــشـــلَ ذاتَ الـــشــمــالِ
رُحـــــنَ مــــن مــنـحَـرِ الــتــؤامِ رواحــــاً
تـــتَـــبـــارى بـــــهِــــنَّ أُدمُ الـــجـــمــالِ
أشــقَــرِيّـاتُ عُــنــصُـرٍ مُـــــوَّرُ الأعــ
ـضــادِ مــــــا فــــــي أُرومِـــهــا مـــــن
ثَـــفــالِ
فــاسـتـمَـرَّت مـعـصـوصـبـاتٍ فــأمــسَـت
بــالـثـنـايـا مــــــن الــضــلــوعِ الـــطــوالِ
نـــاحِـــراتٍ هـــضـــبَ الـــقِــلاتِ فَـــــدِرّا
مــــان تــرعــى مـــن تــيـرِسٍ بـالـمَـطالِ
فـانَـتَحَت مــن رُبــى ذي الأوتــادِ نـجـدَيـ
ــلَ لـــمَـــرعــى قـــصــارِهــا والــــطـــوالِ
ظُـــعُـــنٌ لـــســـنَ يــنـثَـنـيـنَ إذا مــــــا
وزعَ الـــظُـــعــنَ حــــــــادِثُ الأوجـــــــالِ
فــسَــقـى الــلَــهُ حــيــثُ أمَّــــت بــهــا الـعـيـ
ــسُ ســجـالَ الـغـمامِ بـعـد سـجـالِ
3- محمد بن الطلبة المرشد والمصلح الاجتماعي:
سعى ابن الطلبة إلى ترسيخ نموذج قيمي ينبع من الدين
الاسلامي الحنيف، فأشاد بمكارم الأخلاق وحض على التمسك بها
قولا وممارسة؛ من كرم وشجاعة وعفة ونجدة، فبث في حنايا
نصوصه جملة من التوجيه والإرشاد والحكم حدت بالكثير من
الدارسين لشعره أن يعتبره مؤسس منهج إصلاحي، يقول في وصيته
لابنه أحمد شينان التي حضه فيها على التحلي بالأخلاق
الحسنة والتشبث بالمثل الإسلامية؛ كالصبر والكرم وحسن
الخلق، والابتعاد عن الحسد والحقد والنميمة وذميم الأخلاق:
أأحــمَــدُ صــبــراً عــلـى مـــا يــنـوبُ
فـــــــإنَّ الإلـــــــهَ مـــــــعَ الــصــابــرِ
ولاتَــــكُ فــــي أمـــرِ صــبـرٍ ضــجـوراً
ألا لا مــــــــــــــروءةَ لــــلـــضـــاجـــرِ
ومــــــا إن لـــــذي مـــلَّــةٍ حُـــظــوَةٌ
ويَـــشــرُفُ كـــــلُّ امـــــرىءٍ صــابِــرِ
فـــــــــلا تـــبــخَــلَــنَّ ولا تــعــتَــبَــنَّ
ولا تـــــــغــــــدِرَن أُفِّ لـــــلــــغــــادرِ
ولا تــــحــــقِـــدَنَّ ولا تــــحـــسُـــدَنَّ
فــمـا الـحِـقـدُ مـــن شِــيَـمِ الـفـاخـرِ
وَلَــيـس يــسـودُ لـعَـمـري الـحـسودُ
جــــرى ذاك فـــي الـمَـثـلِ الـسـائـرِ
وخــالِــق بِــلُـطـفٍ جــمـيـعَ الــــوَرى
ومِــنــهُــم أقِــــــل عـــثــرَةَ الــعــاثِـرِ
وصِـــل قـاطِـعـاً واعـــفُ عـــن ظـالـمٍ
وواسِ بــنــي الــعــمِّ فــــي الــنـائـرِ
ولا تــطــعَــمَـنَّ ســــــوى مــطــعَــمٍ
كــمَــطــعَــم عـــنـــتَــرَةَ الـــفـــاخــرِ
ولا تـــطـــمَـــعَـــنَّ ولا تــــكــــذِبَــــنَّ
فـــمـــا حِـــلـــفُ ذيـــنــكَ بــالـخـائِـرِ
وعن كل نكر فكن ناهيا
وبالعرف مر واصغ للآمر
ولا تَــــأثُـــرَنَّ حــــديـــثَ امـــــــرىءٍ
فـــشَــرُّ الــحــديـثِ عـــلــى الآثــــرِ
ولا تـــــكُ فـــــي مــجـلـسٍ هــــاذِراً
فــــــإنَّ الـــمــلامَ عـــلــى الـــهــاذِرِ
ولا تــصــحَــبَـنَّ ســـــــوى مـــاجـــدٍ
يــزيــنُـكَ فــــي الــغَـيـبِ والــحـاضِـرِ
يدل على الله في قيله
ويامر بالعدل ما يامر
ويَــنـهـى عـــنِ الـبَـغـيِ إمّـــا بَــغـوا
ويــنــآى عَــــنِ الـمُـفـحِـشِ الـفـاجِـرِ
فكن يا بني كما كان وهب
تحز فخر كل فتى فاخر
وإيّــــــاكَ والأمــــــرَ تــبــغــي لــــــهُ
مــعــاذيــرَ مــــــن لــــــكَ بــالــعــاذرِ
كما خصص تسعة عشر بيتا من الميمية الطولى "تأوبه طيف
الخيال بمريما" دعا فيها إلى التحلي بالخلال الفاضلة ونبذ
أضدادها، وقد صاغ هذه النصائح في ثنائيات بديعة رصعها
بجميل الطباق والمقابلة، يقول:
ومـــا مـــات مَــن أبـقـى ثـنـاءً مـخَـلَّداً
ومـا عـاشَ مـن قد عاش عيشاً مذمَّما
ومـا الـمجدُ إلّا الـصبرُ فـي كـل موطن
وأن تـجـشَـمَ الــهـولَ الـعـظيمَ تـكـرُّما
ومــا الـلـؤمُ إلّا أن يــرى الـمـرءُ غـابطاً
لـئـيـماً لــمـالٍ فـــي يـدَيـهِ إن اعـدَمـا
فذاكَ الذي كالمَوتِ في الناسِ عَيشُهُ
ومَـــن عـــدَّ مـــالاً مــالَـهُ كـــان ألأمــا
ومـــا الــدهـر إلّا بــيـنَ لــيـنٍ وشِـــدَّةٍ
فـمَـن ســرَّ مـسياً فـيه أصـبح مُـرغَما
ومــا الـحَـزمُ إلّا مــرَّةُ الـنـفسِ تُـقتَنى
لــشِــدَّتـهِ مــــن قــبــلِ أن تـتَـحَـكّـما
ومــــا الــعـجـزُ إلّا أن تـلـيـنَ لـمَـسِّـها
فـتَـضـجَرَ مـــن قـبـلِ الـرخـاءِ وتـسـأما
ولــيــسَ الـغـنـى إلّا اعــتـزازَ قـنـاعَـةٍ
تُــجِــلُّ أخــاهــا أن يــــذلَّ ويُـشـتـمـا
ومــا الـفـقرُ إلّا أن يُــرى الـمرءُ ضـارِعاً
لـنـكـبَـةِ دهــــرٍ قــــد ألــــمَّ فـيَـقـحَما
وخـيـرُ الـرجـالِ الـمُجتدى سـيبُ كـفِّهِ
وأجــرَؤُهــم عــنــدَ الـكـريـهةِ مُـقـدَمـا
وَشَـــرُّ الــرجـالِ كـــلُّ خَـــبٍّ مــرامـقٍ
إذا مـــا دعـــا الـداعـي لأمــرٍ تـلـعثَما
تـجنَّبُ صـحابَ الـسوءِ ما عشتَ إنَّهم
لـكـالجُربِ يُـعـدينَ الـصـحيحَ الـمُسَلّما
وراعِ حـــــــدودَ الـــلَـــهِ لا تــتــعَـدّهـا
وصَــغِّـر وعــظِّـم مـــا أهـــانَ وعـظَّـمـا
وراعِ حــقــوقَ الـضـيـفِ والــجـارِ إنَّـــهُ
لــعَـمـرُكَ أوصــــى أن يُــبَــرَّ ويُــكـرَمـا
وإن جــهِـلَ الـجُـهّـالُ فـاحـلُـم ورُبَّــمـا
يــكــونُ عــلـيـكَ الــعــارُ أن تـتـحَـلَّـما
وبِـالـحَسَنِ ادفَــع سـيّـئاً فــإذا الــذي
يـعـاديـكَ كـالـمـولى الأحـــمِّ وأرحَــمـا
ولا تـقـرَبَـنَّ الـظـلـمَ والـبـغـيَ فـاطَّـرِح
فـغِـبُّـهُـما قــــد كــــانَ أَردى وأشــأمـا
ومــا الـبِـرُّ إلّا الـيُـمنُ والـعـدلُ والـتُقى
ومـــا الــشـؤمُ إلّا أن تــخـونَ وتـأثَـمـا
كما خصص للإرشاد والنصح اثني عشر بيتا من قصيدته الطولى
التي عارض بها الأعشى ميمون بن قيس، ومطلعها:
صــاحِ قِــف واسـتَـلِح عـلـى صـحنِ جـالِ
سـبـخَةِ الـنـيشِ هــل تــرى مــن جـمالِ
فدعا قومه إلى اكتساب المعالي وحضهم على التواصي بالحق
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
حـــــيِّ يــعـقـوبَ إنّــهُــم خــيــرُ حــــيٍّ
إذ تــســامـى الــكــرامُ عــنــد الــنـضـالِ
مــن يـرمـهُـم يـجِـدهـمُ حـــيَّ صــدقٍ
أيَّ حـــــــيٍّ عــــرنـــدَسٍ ذي طـَـــــلالِ
مـــن جــداهُـم عــلـى الـحـوادِثِ يـعـرِف
كــيــفَ تــعـفـو الــكـرامُ عــنـدَ الـتـبـالي
مـــن دعــاهُـم لـكـشـفِ ضـــرّاءَ يــغـرِف
عــنـد عـــضِّ الــزمـانِ أربـــى الـسـجـالِ
فــــهُـــمُ كــالــجـيـادِ تــعــفــو إذا مــــــا
نـــفِـــقَ الــراكــضــاتُ عـــنــد الـــكــلالِ
آل يـــعــقــوبَ شــــمّـــروا لــلــمـعـالـي
واســتــعـدّوا لـــمــا تـــجــيءُ الـلـيـالـي
وأعِـــــــدّوا لــــكُـــلِّ خــــطـــبٍ مُـــلـــمٍّ
عُــــــــدَّهُ مــــــــن عَـــــــزازَةٍ ونـــــــوالِ
وتـــواصــوا بــالــحَـقِّ والــصــبـرِ وابــغــوا
فــي الـعـفافِ الـغِـنى عـلـى كــلِّ حــالِ
وامـــروا بـالـمـعروفِ وانــهـوا عــنِ الـمُـنـ
ـكَــــر واســمــوا لـلـمَـكـرُماتِ الــعـوالـي
والـهُـوَيـنـى دعــــوا ولـلـمـجـدِ فـاسـعـوا
وصـــعــابُ الــعُــلـيَ بــصَــعـبِ الــفَـعـالِ
والـــزَمـــوا الــحِــلـمَ والأنـــــاةَ وخَـــلّــوا
نَـــزَغــاتِ الــشـيـطـانِ شـــــرَّ الــخِــلالِ
واتّـــقــوا الــشُــحَّ والــضـراعـةَ والــفَـكّـ
ـةَ والـــــهـــــاعَ شــــيـــمـــةَ الأنــــــــــذالِ
4 - علاقته بمعاصريه:
وفي هذا الشق من المحاضرة نتناول بعض القصص التي تترجم
جانبا من إجلال وتعظيم معاصري ابن الطلبة له من أولياء
وعلماء وشعراء، فهذا الولي الصالح محمذن بن أحمد بن العاقل
الديماني يصفه بالولي:
-
فقد روى بعض الثقاة أنه أي ابن الطلبة أناخ يوما بمحمذن بن
أحمد بن العاقل، فوجد معه رجلا من قومه يطالعان الخزنة،
فقام محمذن إلى ابن الطلبة ليسلم عليه، ثم جلسا فأخذا في
المطالعة؛ وكان الخطاب بينهما بالحسانية، وكان محمد ربما
أخذ آلات "امنيج" (آلة التدخين) ودخن اثناء تلك المطالعة
ثم نهض إلى مطيته وركبها، ومر موليا وجهته؛ فتعجب الرجل
الذي كان مع محمذن من كونه أي محمد من أهل العلم ويتكلم
بالحسانية؛ لأنها لا يتكلم بها من الزوايا في ذلك العصر
إلا القليل، وإنما لغتهم (كلام أزناكْه) وقال أي الرجل
لمحمذن: أمَّنْ هذا؟... فقال له: هذا ولي لم يكن من جنسك
من الأولياء.
-
وهذا العالم المتبحر حرمة بن عبد الجليل العلوي 1243هــ
يصفه بالكرم وطيب المحتد: وذلك أن ابن الطلبة طلب - وهو ما
يزال شابا – منه إعارة كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية
والأحكام لقاضي المدينة المنورة إبراهيم بن فرحون 799هـ
وكانت التبصرة من أهم الكتب المعتمدة في الفتوى آنذاك،
فأعاره إياها على الرغم من شدة تعلقه بها وجرصه على
استصحابها كسائر العلماء في عهده، وأرسل مع التبصرة
الأبيات التالية:
يا ابن المشايخ والأشياخ أسلافه |
جزاء من يسعف العافين إسعافه |
لكن تبصرة الحكام مبخلة |
ولؤلؤ وسواد القلب أصدافه |
ومن أعار سواد العين أتلفه |
لكن يهون علينا فيك إتلافه |
فأجابه ابن الطلبه شاكرا الإعارة:
لله درك من بحر ودرك من |
در يكون سوادَ القلب أصدافه |
أتحفتنا منك نيلا عز مطلبه |
أتحفت ما أمل المامول إتحافه |
-
وفي لقاء فريد من نوعه تتعانق فيه قمم العلم والصلاح
والولاية، يصف ابن متالي فيه ابن الطلبة بأنه عربي أخره
الله؛ وذلك لأنه يتمتع بما يتمتع به العربي من نخوة وكرم
وإباء وتعلق بحب اللغة العربية وامتلاك لناصيتها، وزيادة
على هذه الشهادة يقدم له بيده آلة التبغ (امنيج) ويعلل هذا
التصرف بقوله: "عودُ انتوم كيف امحمد" فقد لقي ابنُ الطلبه
ابنَ متالي يوما، وبعد أن تحدثا في مسائل العلم وشؤون
المجتمع، سأله ابنُ متالي: ما آخر ما قاله أهل تيرس من
شعر؟ فأنشده ابن الطلبه قصيدته:
بعد ما بين من بذات الرماح |
ومقيمِ من اللوى بالنواحي |
فبادر ابن متالي بكتابتها كلها بخطه، وأثناء ذلك المجلس
الحافل هيبة الممتع معا ناول بنُ متالي بيده ابنَ الطلبه
تبغا ممتازا، فاستمر ابن الطلبه يدخن التبغ الذي كان معه،
ثم استطرد متبسما لما راى في وجه أحد الحاضرين من الأفاضل
استغراب عدم تدخينه التبغ الممتاز الذي قدم له لمربط:
وإن أولى البرايا أن تواسيه |
عند المسرة من واساك بالحزن |
إنَّ الكرامَ إذا ما أيسروا ذكروا |
منْ كانَ يألفهمْ في المنزلِ الخشنِ |
ورحم الله العالم العلامة والدراكة الفهامة الشيخ محمد
المامي حين يصفه بصاحب المكارم والمعالي، فقد طلب الشيخ
محمد المامي من بعض العلماء تسليم نازلة فقهية، وهي عادة
دأب عليها علماء هذه الناحية، فقال القاضي أحمد فال بن
محمذن فال الموسوي اليعقوبي:
من قلد المامي السري في مسأله |
نجا من الحساب يوم المسأله |
فقال ابن الطلبه مسلما:
قلت وذاك عندنا مسلم |
وقول من خالفه مجرم |
فعرضت الأبيات على الشيخ محمد المامي، فقال بداهة:
البيت الاول لأحمد فال |
والثاني لابن الطلبه ذي المعالي |
والخط خط الأورع البربوشي |
وخطه كالذهب المنقوش |
-
ويقول العلامة والشاعر المجيد والمؤلف محمد عبد الله بن
البخاري بن الفلالي 1316هـ: ومن المشهورين في هذه البلاد
محمد بن الطلبة العالم الشهير الأديب الشاعر الحسن الخط.
-
وينعته العلامة محمد فال بن باب بن أحمد بيبه العلوي في
تكملته بالفقيه الصالح العربي القح.
-
كما يرى العلامة والمؤرخ ببكر بن محمذن بن احجاب الديماني
1322هـ أنه فريد عصره في العلم وفي السخاء والشعر، يرتقي
في مدارج الأولياء.
-
ويصفه العلامة والمؤرخ صالح بن عبد الوهاب الناصري 1278هـ
بقوله: إن ابن الطلبه من الأعيان والشعراء المجيدين.
-
ويقول عنه الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل 1328هـ:
إنه ولي من أولياء الله تعالى؛ فقد ذكر في هذين البيتين
كفتي الطريقة المحمدية:
إن نعمى وإن أم البينينا |
لفتاتان حلية الظاعنينا |
إن أم البنين تنسيك نعمى |
ولنعمى تنسيك أم البنينا |
وقد ذكر حيثيات هذه هذه القصة بالتفصيل محمد العاقب بن
سيدي عبد الله بن مايابى في مؤلف: مجمع البحرين في مناقب
الشيخ ماء العينين.
-
ومن أوائل الشخصيات العلمية التي ترجمت لابن الطلبة ووفته
حقه: أحمد بن الأمين الشنقيطي صاحب الوسيط؛ فيحكم بأنه فاق
أقرانه في العلم والكرم وجودة الشعر ثم يؤكد ذلك: "...ولا
تكاد تعد طبقة إلا بدأت به؛ إذا عد الكرام فهو حاتمهم أو
العلماء اللغويون فما هو بدون ابن سيده، وكل أخباره تكتب
بماء الذهب، ويعود بن الأمين وكأنه شعر بأنه لم يوفِّ
الرجل حقه فيسهب في الحديث عن شهرته وجاهه وحلمه:
-
"...وبالجملة فقد كان محمد هذا حسنة من حسنات الدهر لانزاع
في ذلك" ومن تجليات عناية ابن الأمين الفائقة به مقدار ما
خصص له من كتابه، وما خص به نصوصه من شرح.
فقد شغل شعره والحديث عنه نحو ربع صفحات الكتاب وهو ما لم
يخصص مثله لأي واحد من الثمانين أديبا الذين ترجم لهم،
ويؤثره أيضا عند اختتام حديثه عنه بما لم يؤثر به غيره:
"...إلى هاهنا تم ما تسنى من شعر نابغة شنقيط" ثم ينبهنا
إلى أن هذه العناية هي موقف رمى إليه وتعمده: "...وما عثرت
له على قصيدة وفاتتني كلها إلا قافية في مدح النبي صلى
الله عليه وسلم"
"... كما ربطته صلات صداقة مع أمير اترارزة المجاهد:
محمد الحبيب بن أعمر بن المختار بن الشرقي بن اعلي شنظورة
بن هدي بن أحمد بن دامان (1277هـ \ 1860م) ومشورة تمثلت في
الرسائل التي كانا يتبادلانها؛ ومنها أن البعض قد أفتى
الأمير بنزع السلاح من حامليه لأن العافية انتشرت وحمل
السلاح صار حرابة، فقال لهم: سأستشير محمد بن الطلبة، فبعث
إليه برسالة هذا نصها: "إن العلماء حولي من جميع الزوايا
أمروني بنزع السلاح من ذويه، فانتظر ما تشير إلي به"
فأرسل إليه ابن الطلبة بقطعة شعرية، يحثه فيها على التمسك
بالسلاح للذب عن حمى الشريعة الإسلامية:
ألا بلغ محمدنا الحبيبا
تحية ناصح لك ذي وداد
أيازين الندي ومن نجلي
فلا تجزع من الحدثان واصبر
ولا تضع السلاح فإن فيه
بذبكم الغوائل عن ذويه
فلا عدمت بنو دامان
يوما
|
|
سلاما مثل نفح الطيب طيبا
يرى ما قد مناك به مصيبا
بطلعته إذا دجت الخطوبا
لما لابد يوما أن يصيبا
لأهل الدين عندكم نصيبا
إذا عدموا لغائلة مجيبا
ولا تاشمش
منظرك النجيبا
|
وممن عاصره كذلك من الأمراء: أحمد بن عيدة أمير آدرار
(1277هـ)، وتعتبر نازلة "منت ارشيد" خير دليل على ذلك،
وهناك العديد من القصص والمرويات يثبت ذلك (انظ مخطوطات
مكتبة اهل الطلبة)
وكذلك الأمير بكار بن اسويد احمد أمير تكانت (1233هـ)، وهو
الذي يعنيه بقوله:
بكار إنك رواح وبكار
|
|
للمكرمات ونفاع وضرار
|
وقد اطلعنا في بعض المخطوطات بمكتبة أهل الطلبة على بيت
رديف لهذا البيت لعله مطلع هذه القصيدة وهو:
لله عيس على أكتادها القار
|
|
كأنها من دؤوب السير أوتار
|
-
وفــــــــاتـــه:
توفي رحمه الله عام (1272هـ\1856م) بالجنوب الغربي من
تيرس حيث دفن عند جبال "انتجاط بآدرار سطف"، وهي التي
ذكرها في نهاية قصيدته التي مطلعها:
لمن الديار عفون بالنمجاط
|
|
فالملزمين كمنهج الأنماط
|
حيث يقول:
أوينتجعن مع العشي مراتعا
|
|
بين الأطيط فأجبل انتاجاط
|
وقد أرخ كثير من العلماء والمؤرخين لوفاته شعرا ونثرا من
بينهم العالم العلامة: بابكر بن محمذن بن احجاب الديماني
(1322هـ) بقوله:
في عام شرعب[10]
على التوالي
وهو فريد عصره في الأسخيا
|
|
وفاة نجل الطلبة ذي الخلال
والشعرا والعلما والأتقـيا
|
كما رثاه الأديب الكبير المرحوم امحمد بن هدار بمرثية من
عيون الأدب الحساني نسجها في بحر (لبتيت التام):
امش مودع للرحمان
وامحمد للطلبه صلطان
يعمل ذاك إل يفعل كان
-------
اشراب واسيه امن ابحور
واعطيه النفيس امن الحور
وفيه يرب اعطيه اكْصور
-------
يلالك يزين الكتب
يلالك يلاي الصرب
يلال الطرب للطلب
_____
يلالك ياللوغَ واخليل
أويلالك يقيام الليل
ول عندك يا ابن السبيل
|
|
قطب ازو تيرس وإمامُ
الطايح رفاد اخيامُ
إراه امحمد كْدامُ
اعسل ج فالآيه مذكور
أو فجن علي مقام
واكْطايف وانخل باكمام
والشعر أور ول الطلب
حسان اتشير ظلام
هذا كامل حل أفام
أوراه أتكرار التسهيل
افنوب واعر قيام
أيلال راكْن مريام
|
-------
امحمد هون أزكْال
تعرف لمكبر منوال
تخمامُ راكْب وافعالُ
_____
بعد اجباي اعل المراد
حد اتل فدين إلحاد
ول يطمع من يحمل زاد
|
|
ماهُ كْاع اتل شكرال
فناس اكثر تفخام
ما كْظظهم عن تخمامُ
امحملطـــــــــلب لجــــــــواد
واعدل منهو سكْامُ
تعديــــــــــــه اوتيـــــــــــــشرامُ
|
كما رثته كذلك مريام منت هدار؛ وهي التي ذكرها امحمد ول
هدار في المرثية السالفة الذكر: " أيلال راكْن مريامُ"
تقول:
شعر زين امعناه اكبير |
معلوم امحملطلب |
وامغن والين من لحرير |
يفرح فجوه اهل الطلب |
لا تغفرهال يلقدير |
كَان كلت افهاذ كذبَ |
وفتشواش لا ززت الحد |
من لزم ما يطربن حد |
وان بالحمرَ، والقدير |
أل عند البير امحمد |
الحمرَ ول عند البير |
قادر يجمع بعد ال عند |
تنــــــــــويه:
في نهاية هذه الورقة التي أردنا أن نستنطق من خلالها جانبا
من وجوانب الثقافة العالمة في منطقة تيرس إبان القرن
الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي: محمد بن الطلبة
مثالا، أعود لأقول: إننا في
مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث مسرورين جدا بهذه
الدعوة الموجهة من طرف إدارة
المركز الحساني لتنمية وتثمين التراث الثقافي في المملكة
المغربية الشقيقة، وهو توجه يذكر فيشكر؛ إذ يخلق جوا من
الحركة الفكرية يجب أن يشجع ويعمق بتناول وإبراز حياة
أعلام المنطقة وما قدموه من تراث سيظل نبراسا يهتدى به في
جميع المجالات العلمية والبحوث الأكاديمية المعاصرة؛ ليعوض
جانبا من نسيان أو تناسي هذا القطب فيفتح قطرا من زاوية
الضوء على زاوية طالما رصع عالمها وشاعرها جدي امحمد بن
الطلبة نحورهذه الربوع بجميل شعره بشقيه الفصيح والشعبي،
وأبرزت فتاويه علو كعبه في الفقه؛ بتقييمه للنوازل تقييم
العالم وتمحيص الخبير.
فنرجوا أن يتواصل هذا العطاء الفكري المتدفق ويتوج بفتح
فرع لهذا المركز هنا بالمملكة المغربية خصوصا إذا علمنا أن
العلامة ابن الطلبة مدفون بانتاجاط ضمن الحيز الجغرافي
لعمالة آوسرد؛ وتحديدا عند سلسلة جبال "انتاجاط".
" وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيب "
رئيس مركز محمد بن الطلبة للدراسات والبحوث
سيدي محمد بن
الطلبة
|